يوسف بيدس -مؤسس انترا

الأصل في الروايات أنه في العام 1858، غادر وفد من الحجاج الأرثوذكس مدينة بطرسبرغ (Pittsburgh) لزيارة الأماكن المقدسة في القدس، وكان بينهم غريغوري بيدس (جد يوسف). وكان هذا الأخير شديد الإيمان والورع ففضل البقاء وعدم العودة إلى بلاده، وعمل خادماً في الكنيسة الأرثوذكسية في القدس، وتزوج لاحقاً بفتاة من آل يمين من زغرتا ورزق بخليل (والد يوسف)، الذي أتقن اللغة العربية وعمل في التعليم وفي كتابة الروايات (رواية الوارث التي صدرت في العام 1920) والقصص والترجمة، كما أسس مجلة النفائس العصرية. 

في العام 1908، على غرار والده، تزوج خليل من امرأة لبنانية هي أديل ابو الروس ورزق بـ 4 اولاد من بينهم يوسف المولود في 12-12-1912. وتوفي خليل في بيروت في العام 1949 بعدما طردته قوات الاحتلال الإسرائيلي من منزله في القدس. وهناك من ينفي الأصل الروسي لعائلة بيدس ويعتبر أنها عائلة عربية من الغساسنة.

النشأة 
عاش يوسف بيدس في عائلة كانت تعاني من ظروف مادية صعبة. درس في مدرسة القديس جورجيوس الإنجيلية في القدس، ولكنه لم يكمل دراسته فانخرط  في سن الـ 16 من عمره في سوق  العمل لمساعدة والده في تغطية نفقات تعليم أخوته الثلاثة الأكبر سناً منه، فعمل أولاً في دائرة الزراعة ومن ثم في مديرية الجمارك، لكنه وجد في العمل الحكومي “عملاً مملاً ورتيباً” وفقاً لقوله، فتركه واتجه في العام 1931 للعمل في بنك باركلس (Barclays Bank) براتب 8 جنيهات في الشهر وأخذ يتابع إلى جانب هذا العمل دروساً في العمل المصرفي وأخذ يترقى في سلم المسؤولية المصرفية، وهذا ما دفعه في العام 1943 إلى الانتقال إلى البنك العربي حيث تابع مسيرة التقدم وأصبح مديراً عاماً للبنك. 

الزواج 
في العام 1946 تزوج من وداد سلامة وهي ابنة أخت منير أبو فاضل (نائب رئيس مجلس النواب لاحقاً) الذي كان يشغل منصب مفوض شرطة حيفا، وشقيقه الكاتب يوسف سلامة، ورزقا بـ 3 أولاد ذكور هم: مروان، غسان، زياد.

الانتقال إلى بيروت 
عندما اندلعت الحرب في فلسطين في العام 1947، أرسل يوسف زوجته الحامل الى بيروت وبقي هو في القدس. لكن  اشتداد حدة المعارك وطرد عائلته من منزلها في القدس دفع العائلة إلى الانتقال نهائياً إلى بيروت حيث أنشأ مكتب International Traders لتجارة العملات الأجنبية والصيرفة  في باب إدريس في وسط بيروت.

وقد استقطب بيدس أموال أعداد كبيرة من النازحين الفلسطينيين الذين عرفوه مصرفياً ومالياً بارعاً فأودعوا أموالهم لديه طالبين منه استثمارها في مجالات مربحة فكبرت أعماله واتسعت نشاطاته  المصرفية.

وقد حصل بيدس على الجنسية اللبنانية كالعديد من الفلسطينيين الذين قدموا إلى لبنان في تلك الفترة لا سيما المسيحيين من بينهم.
 
تأسيس  انترا
بعدما كبرت أعماله، استحصل على رخصة في العام 1951 لإنشاء مصرف أسماه "انترا" بمشاركة كل من منير أبو فاضل، إميل مسلم، منير حداد، بديع بولس، عبدالله و وجيه تماري وهم شركاءه في أعمال الصيرفة سابقاً. انطلق المصرف في عمله بقوة وزخم ما جعل منه في فترة قصيرة من أكبر المصارف اللبنانية وأوسعها انتشاراً وارتفعت ودائعه وتسليفاته مستفيداً من الفورة الاقتصادية التي شهدها لبنان نتيجة نزوح الرأسمال، ولاسيما الفلسطيني بعد احتلال فلسطين، وكذلك من الأموال العربية السورية والعراقية والمصرية التي تدفقت على لبنان هرباً من الانقلابات العسكرية. وهكذا تجاوز المصرف لبنان إلى العالم وأنشأ فروعاً له وأسس شركات عدة تعاطت في كافة القطاعات الاقتصادية في استثمارات عقارية ونقل (الميدل ايست) وفنادق  وسياحة. فاشترى شركات مفلسة وحولها الى الربح في أشهر قليلة. ووصل عدد العاملين في انترا إلى أكثر من 30 ألف عامل أي ما يوازي عدد العاملين لدى الحكومة اللبنانية آنذاك. وهكذا أصبحت انترا وبيدس عصب أساسي في الاقتصاد اللبناني لا سيما قطاع المصارف وهذا ربما ما أثار الخوف ممزوجاً بالحقد والكراهية وبالأمور السياسية ما دفع إلى اغتيال المصرف وهو في قمة قوته و متانته المالية. 

انهيار انترا
اعتمد بيدس في عمله على نظرية في العمل المصرفي تعتبر انه لا يجوز للمصارف ان تتصرف وكأن سحب الودائع  كلها أو القسم الأكبر منها سيحصل غداً. بل يجب عليها عدم الخوف من حصول هذا الأمر والاكتفاء بالاحتفاظ بنسبة بسيطة من الاحتياط في حال ازدياد السحوبات لان الودائع تحت الطلب، في الظروف العادية، توازي نفسها بنفسها بشكل مقاصة أي ما يأتي للمصرف من أموال وودائع يوازي ما يسحب منه. وفي حال حصول أزمة معينة وتهافت الناس على سحب ودائعهم يجب على الدولة التدخل وإعادة الثقة  ومنع المصارف والاقتصاد من الانهيار والسقوط. استناداً إلى هذه النظرية لم يحتفظ بيدس في مصرفه بسيولة عالية بل عمد إلى توظيف الأموال في استثمارات عقارية كبيرة في لبنان والعالم لاسيما في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية.

لم يسقط بنك انترا بفعل عوامل ظرفية مؤقتة بل نتيجة تدخل عدة عوامل استخدمت في التخطيط لإسقاط المصرف. 

ففي العام 1964 انتخب شارل حلو رئيساً للجمهورية اللبنانية خلفاً للواء فؤاد شهاب الذي آثر الابتعاد عن الواجهة الرسمية و إدارة دفة الحكم من خلال الحلو ورجال المكتب الثاني، وفي العام 1965 بدأت المقاومة الفلسطينية عملها المسلح في لبنان بقيادة ياسر عرفات ما أشاع الخوف لدى فئات لبنانية كثيرة، لاسيما المسيحيين من بينهم من هذا الوجود المسلح الذي اخذ بتعاظم يوماً بعد آخر ويشكل دولة ضمن الدولة، وترافق ذلك مع اشتباكات بين المسلحين الفلسطينيين والجيش اللبناني، وقد كان يوسف بيدس أحد الداعمين للوجود الفلسطيني. ويقال ان أول تبرع كبير تلقته منظمة فتح الفلسطينية كان من يوسف بيدس وبلغ 10 آلاف ليرة. فطلب الرئيس الحلو من بيدس دعم الجيش اللبناني ومد الدولة بقرض كبير لتسليح الجيش لكن بيدس رفض اما لمعارضته الجيش ووقوفه الى جانب الفلسطينيين واما لعدم توفر السيولة  الكافية لديه وهذا ما تم استخدامه في الترويج لإفلاس انترا حيث انطلقت الإشاعة أن لا أموال لدى انترا. 

ومن الأسباب أيضاً ما أوردته مجلة “تايم” الأميركية في أحد أعدادها الصادرة في تشرين الثاني 1966 أن ثلاث دول عملت على إسقاط “انترا”: “بريطانيا التي تحركت أولاً إذ كانت غير راضية عن رفض بيدس شراء طائرات “في اس- 10” البريطانية لشركة “طيران الشرق الأوسط” التي يملكها “انترا”. ثم تحركت الحكومة الفرنسية التي تملك 15 في المئة من أسهم “طيران الشرق الأوسط” وتطمع في امتلاك البقية ولا تحب بيدس الموالي للأميركيين، فجمدت طلباً لـ “انترا” لبناء مركز أوروبي في باريس يحتاج إليه حاجة ماسة. ثم تدخلت روسيا، إذ حملت “بنك نارودني” على سحب 5 ملايين دولار من “انترا”. 

“ويحكى أيضاً أن الشعبة الثانية (مخابرات الجيش اللبناني) كان يمولها البنك، ثم يبدو انه أوقف تمويلها. وإلى جانب نواب ووزراء سابقين كانوا أعضاء في مجلس الإدارة مثل نجيب صالحة ورفيق نجا ومنير أبو فاضل، أفاد موظفون في البنك أن ثلث مجلس النواب كان يقصد “انترا” في نهاية الشهر ليقبض المال”. وتؤكد الأوساط عينها أنه “كان هناك تدخل سياسي داخلي لإسقاط “انترا”. حصلت حرتقات سياسية على المصرف، وكان بيدس أجرى صفقة كبيرة في الخارج ويقال أنه كان في حاجة ماسة إلى السيولة، فسربوا شائعة أن لا سيولة لدى البنك.

وفي العام 1966 كانت السوق المالية اللبنانية تعاني من نقص حاد في السيولة النقدية نتيجة توسع المصارف في التسليف، كما أن بعض المستثمرين العرب عمدوا إلى سحب ودائعهم من المصارف اللبنانية  واستثمارها في مصارف أوروبا وأميركا حيث الاستقرار وكذلك العائدات المجزية، وكان “انترا” من بين المصارف اللبنانية الذي لا يمتلك سيولة كبيرة بل استثمارات مختلفة هذه العوامل السياسية- المالية مجتمعة استخدمت في إسقاط “انترا”. فانطلقت صباح يوم 10-10-1966 إشاعة قوية، اتهمت مخابرات الجيش بالوقوف وراءها، ومفادها أن أوضاع انترا ليست سليمة، وأن بيدس بدد أموال المصرف في استثمارات خاسرة وفي سبيل إرضاء ملذاته على الخمر والنساء والقمار وأن لا أموال كافية لدى المصرف، فاندفعت جموع المودعين للمطالبة بسحب أموالها. وبعد أربعة أيام نفذت الأموال من صناديق المصرف فطلب بيدس من مصرف لبنان مدّه بقرض بـ 100 مليون ليرة لتغطية هذا الطلب المفاجئ وغير المبرر لسحب الودائع. لكن مصرف لبنان رفض إقراضه المبلغ بطلب من السلطات السياسية على الرغم من أن موجودات المصرف تفوق هذا المبلغ بكثير، كما واستخدم هذا الطلب لتعزيز الإشاعة عن وضعية المصرف غير السليمة. ولكن الإشاعة عمت عدداً آخر من المصارف التي عمد مصرف لبنان إلى مدها بالسيولة لمنع سقوطها. لكنه منع السيولة عن “انترا” فسقط وانهارت هذه الإمبراطورية المالية. وفي 5-1-1967 أصدرت المحكمة  التجارية حكماً بإعلان إفلاس “انترا” بعدما رفضت طلب الصلح الذي تقدمت به “انترا”. لكنّ شارل حلو يذكر في مذكراته رواية مختلفة تقول إن مصرف لبنان كان عاجزاً عن دعم المصرف بسبب ضخامة المبالغ التي تحتاجها “انترا”.

المسؤولية 
يعتبر يوسف بيدس أن المسؤولية الأساسية في سقوط “انترا” تقع على كل من رئيس الجمهورية شارل الحلو، رئيس الحكومة عبدالله اليافي، الرئيس صائب سلام، بيار إده وجوزف اغورليان. وكان بيدس مقتنعاً بوجود مؤامرة سياسية إضافة إلى مؤامرة اقتصادية لإسقاط “انترا” وقد قال أمام إحدى المحاكم البرازيلية في العام 1967، “اقترفت غلطة وحيدة في حياتي أني جعلت نفسي أكبر من حكومة بلادي. لقد أيقنت أن الرئيس شارل كان عازماً على تصفيتي”. 

الرئيس شارل الحلو رفض نظرية المؤامرة وكتب في مذكراته ان انهيار “انترا” كان لأسباب عدة في مقدمها:
    “السبب الرئيسي لانهيار كل إمبراطورية ألا وهو اتساعها وتحديداً سرعة هذا الاتساع مع ما يرافقه من مغامرات ناجحة  في بعض الأحيان وفاشلة في بعضها الأخر وخطرة في كل الأحيان”. 

    كما اتهم بيدس الرئيس صائب سلام بالمسؤولية قائلاً سلام بدأ يهددني وانضم إلى أعدائي بعدما رفضت تسليفه 3 ملايين ليرة لبناء شقق. فوزع الأكاذيب عن “انترا” ووافق على دعم الرئيس عبدالله اليافي خصمه اللدود شرط أن يأتيه برأسي. 

“انترا قصة نجاح قضت عليها السياسة، فتعاطُف بيدس مع منظمة فتح من جهة وتحوله إلى مصرف لتمويل بعض السياسيين من جهة اخرى فتح المؤسسة على الرياح السياسية التي مزقت أشرعة النجاح وأغرقت السفينة“

نهاية بيدس

غادر بيدس لبنان بعد الانهيار وأقام في البرازيل يتابع قضية المصرف، لكنه فضل الانتقال الى سويسرا حيث أصيب بسرطان البنكرياس وتوفي في 1-12-1968 عن عمر 56 عاماً بعد نحو سنتين على خسارته لمصرف “انترا”. 

انترا قصة نجاح قضت عليها السياسة، فتعاطف بيدس مع منظمة فتح من جهة وتحوله إلى مصرف لتمويل بعض السياسيين من جهة أخرى فتح المؤسسة على الرياح السياسية التي مزقت أشرعة النجاح وأغرقت السفينة. 

اترك تعليقا