حنّا سعادة - التهاب القولون الناتج عن تناول المضادات الحيوية
تبدّل المضادات الحيوية التي تضاف عادةً إلى الأغذية الحيوانية الميكروبات المعوية الطبيعية لدينا لدى استهلاكنا المنتجات الحيوانية. بالإضافة إلى ذلك، تصل المضادات الحيوية التي تعالج الالتهابات إلى الميكروبات المعوية بتركيزات أكثر ارتفاعاً فيكون تأثيرها أعمق. إن تناول المضادات الحيوية غير الملائم لمعالجة الالتهابات التنفسية الفيروسية أو تناولها بشكلً مطوّل غير ضروري لمعالجة التهابات البول وغيرها من الالتهابات من شأنه مفاقمة آثارها السلبية أصلاً على الميكروبات المعوية. في الواقع، لقد أدّى سوء استخدام المضادات الحيوية في القرن الفائت إلى إضعاف المناعة المعوية وإصابة الأمعاء بالمزيد من الالتهابات.
من بين هذه الالتهابات، التهابٌ معويٌ تسبّبه جرثومة سامّة تدعى «كلوستريديوم ديفيسيل»، وتعرف أكثر باسم “سي. ديف (C. Diff)”. إنّ هذه الجرثومة التي تنتمي إلى نفس عائلة جرثومة الغنغرينا الغازية التي اشتهرت إبّان الحرب العالمية الأولى قد أصبحت عاملاً متواتراً في التهاب القولون الناتج عن تناول المضادات الحيوية، خصوصاً لدى كبار السنّ ومرضى المستشفيات ودور العجزة كما أنّها تساهم في زيادة معدّلات الاعتلال والوفيات حول العالم. إن السمّين A و B هما العاملان الأكثر خبثاً في الجرثومة، فهما يخترقان الأمعاء ويقتلان الخلايا المعوية التي تبطّن الجدار المعوي فيسبّبان تبقّعات متقيّحة وتقرّحات ونخرٍ معوي.
في العام 1935، قام هول وأو-تول بعزل جرثومة C.Diff من براز حديثي ولادة خالين من الأمراض. ولم تظهر أولى التقارير السريرية عن التهاب القولون الناتج عن تناول المضادات الحيوية إلا في نهاية السبعينيات. منذ ذلك الحين والحالات تسجّل ارتفاعاً بشكلٍ مطّرد وقد تخطّى الالتهاب المؤسسات لينتشر بين المجتمعات أيضاً كما أنّه بات يطال الشباب والخالين من الأمراض اليوم.
عادةً ما يكون التشخيص من خلال تنظير القولون سهلاً في حال كان الالتهاب شديداً، نظراً لإمكانية رؤية الأضرار والعوارض الشديدة كالحرارة وانخفاض ضغط الدم وقصور العديد من الأعضاء. أمّا في حال الالتهاب الطفيف أو المعتدل لدى الأشخاص الذين ينعمون بصحّة جيّدة، يمكن أن يؤدي تنظير القولون إلى إسهال مطوّل وأعراض متفرّقة غير محدّدة. في هذه الحال، قد يكون الكشف عن السمّين A و B في البراز مفيداً في حال كانت الفحوصات ايجابية، لكنّ الفحوصات عادةً ما تكون سلبية ما يُلزم إجراء التشخيص عيادياً.
وللمزيد من التعقيد، يمكن للجرثومة، C.Diff، أن تستوطن كامل القولون من دون أن تظهر أيّة عواض. في هذه الحال، يمكن أن تبقى نتائج فحوصات البراز بحثاً عن السمّين A و B إيجابية لمدّة طويلة من دون أن يكون هنالك عوارض عيادية تستلزم العلاج.
إن الهدف الأول من العلاج هو ايقاف المضادات الحيوية، الأمر الذي يسمح باسترجاع ميكروبات البراز الطبيعية. في معظم الحالات، يؤدي ذلك إلى معالجة الإسهال من دون الحاجة إلى تدخّلات إضافية. لكن حين يخفق في هذه المهمة، يمكن عندئذ اللجوء إلى التجارب العلاجية عبر استخدام الميترونيدازول، فانكوميسين أو ريفاكسيمين لكن المرض يعود إلى الظهور لدى 20% من المرضى بعد العلاج الأول، لدى 40% منهم بعد العلاج الثاني، ولدى 60% بعد العلاج الثالث. في مثل هذه الحالات، يصبح الاستخدام المطوّل لجرعات صغيرة من الفانكوميسين أو العلاجات من خلال زرع البراز ضروريًا.أمّا في حال تسبّب المرض بتضخّم القولون السام وهو مضاعفة مهلكة لنخر القولون، يصبح استئصال القولون بأكمله الحلّ الجراحي الوحيد الذي قد ينقذ الحياة. في الولايات المتحدة وحدها، يودي التهاب القولون الناتج عن جرثومة C.Diff بحياة نحو 14000 شخص سنويًا.
من الصعب القضاء على أبواغ جرثومة C.Diff التي تشبه البذور الجافّة بواسطة منتجات التطهير فهي تحيا على السطوح الجافّة لمدّة طويلة، ومن الممكن استنبات هذه الجراثيم من معظم السطوح في المحيط الطبي، وحتى في العديد من المحيطات المجتمعية. حين يتمّ الاحتكاك بين الأيادي السليمة وهذه السطوح، قد يقوم المرء من دون أن يدرك بنقل هذه الجرثومة إلى فمه حيث يتمّ هضمها. وهي تتمكّن من بلوغ الأمعاء لأنها قادرة على مقاومة أحمض المعدة . وحين تصل إلى الأمعاء، تتكاثر فتتنافس مع الميكروبات الطبيعية وتقوم بفرض حالةٍ من الاحتلال أو بالتسبّب بالتهاب ناشط. إن العقاقير التي تحدّ من أحماض المعدة تزيد من احتمال تطوير التهابات ناتجة عن جرثومة C.Diff لأن عدد الأبواغ التي يتمكّن من اجتياز الوسط الحمضي في المعدة وبلوغ الأمعاء يكون أكثر ارتفاعًا.
ليست كلّ حالات الاسهال ناتجة عن عدوى جرثومة C.Diff وهذه الحالات تتجاوب لدى ايقاف المضادات الحيوية. في الوقت الحالي، 50% من كافة المضادات الحيوية التي يتم وصفها يعتبرغير ملائم ومؤذٍ لكن هذه الوصفات المبالغ فيها تستمر في تعزيز وباء التهاب القولون. واليوم يعتبر الاعتدال في وصف المضادات الحيوية طوال أقصر مدّة ممكنة الاستراتيجية الأنسب للحدّ من هذا الوباء. وعلى الرغم من ارتفاع معدّلات التجاوب مع هذا الاستراتيجية، لا يزال العديد من المرضى يلجأون إلى المضادات الحيوية عندما يعانون من نزلة برد تصيب الصدر أو من إفرازات الجيوب الأنفية ولا يزال العديد من مقدمي الرعاية الصحية يعمدون إلى وصفها من دون أي مبالاة بصحّة المريض وسلامته.
في حينٍ أنّ الحيوانات تحتاج إلى آلاف السنين كي تتطوّر وفقًا للمتطلّبات البيئية، تحتاج الجراثيم إلى ما يزيد عن بضعة أسابيع كي تطوّر آليات دفاعية في وجه التحدّيات البيئية. وعليه، فإن الجراثيم تصبح اليوم أكثرفأكثر قدرةً على مقاومة المضادات الحيوية وبات من الصعب ايجاد مضادات حيوية تكون الجراثيم حساسةً تجاهها. إن الوصف المسؤول للمضادات الحيوية قد يكون الاستراتيجية المتبقية الوحيدة لايقاف الاتجاه المتنامي في مقاومة المضادات الحيوية والتهاب القولون الناتج عن تناولها.
اترك تعليقا