سعيد شعيا - بين الثورات العربية اليوم والنهضة في القرن التاسع عشر
كما ظهرت في هذا الزمن مجلة علمية متميزة وفريدة اسمها «المقتطف». أنشأها الثنائي يعقوب صرُّوف وفارس نمر بمعاونة شاهين مكاريوس في الكلية السورية الإنجيلية، والتي أصبحت الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1920، فجاء إصدارها الأول في شهر أيار عام 1876 يواكب العلوم والصناعات في ذلك العصر، ويبرز لنا النزعة العلمية والفكرية في سبيل الإصلاح وتمدُّن الأقطار العربية في الإمبراطورية العثمانية على وجه الخصوص. وليس غريباً أن تكون الكلية السورية الإنجيلية موقعاً فكرياً بامتياز في هذه الفترة وقد درس وتخرج منها يعقوب صرُّوف وفارس نمر ممن لهم الحظوة بأن تلقوا العلوم العربية على يد الشيخ ناصيف اليازجي والشيخ يوسف الأسير دون أن ننسى كورنيليوس فان دايك ممن أغنوا المكتبات العربية بمؤلفاتهم وترجماتهم المتنوعة.
ما يميز هذه المجلة عن غيرها، استعمالها أدوات الرسم والتصوير إلى جانب المقالات، لتسهيل إيصال المعلومة وتوضيحها للقارئ، وأكثر ما يهمنا اليوم في إثارة هذه المقالة هو إظهار انفتاح المفكرين العرب في هذه الفترة على تقدم العلوم في البلدان الأوروبية وإيجادهم التعاريب والترجمات المناسبة للتعابير العلمية التي لم تكن معروفة سابقاً. فواكبت «المقتطف» المواضيع العلمية المتنوعة منها: النظام الشمسي والحرارة، صقل الحرير وتربية دود القز، وأنواع النباتات وتصنيفاتها وأخبار المرصد السوري الفلكي والمترولوجي، ولقد احتوت هذه المجلة على فقرة تهتم بمسائل القراء وأجوبتهم. لكن أبرز المسائل التي اهتم بها يعقوب وصرُّوف ونمر هي المسائل التي شغلت المفكرين في القرن التاسع عشر كمسألة تطور الإنسان أو ما يعرف بالنظرية الداروينية، وهم من أوائل من كتبوا عن هذه النظرية في العالم العربي، ومسألة دوران الأرض، وتحديث اللغة العربية وانتقالها من لغة شعرية نثرية إلى لغة تستوعب مفردات العصر وتطلعاته، دون أن ننسى المسألة الأساسية وهي المدارس المجانية للبنين والبنات، والمنهج التعليمي الذي يجب أن يشتمل على العلوم الحديثة، بالإضافة إلى إلزامية تعليم الفتيات أسوة بالفتيان دون التطرق إلى المسائل السياسية والدينية وذلك دون التخلي عن هويتهم العربية المشرقية.
لقد تكيفت «المقتطف» مع ظهور الضغوطات والقمع السياسي والنشري، مما اضطرها إلى الانتقال لتكمل مسيرتها النهضوية في مصر،حيث أصبحت مرجعاً للحوادث التاريخية إضافة إلى الأخبار العلمية.
والسؤال المطروح ما علاقة تطور النهضة العلمية بين الشعوب العربية بمفهوم الإصلاح، وتحديدًا الإصلاح السياسي، وهل يمكن لأي ثورة أن تقوم دون أن تكون مسبوقة بثورة فكرية وعلمية تمهد لها الطريق؟ نطرح هذا السؤال اليوم بعدما اتفق كثير من الباحثون على تخبط البلاد العربية منذ انهيار السلطنة العثمانية وخصوصاً في زمن الثورات هذه. فالإصلاح هو إصلاح للقيم الاجتماعية وسلم المبادئ قبل الإصلاح السياسي.
إن الموضوعات التي طرحتها مجلة المقتطف كانت سابقة لعصرها وتعتبر مسائل جديدة ورائدة على الفكر الشرقي، كدعوتها لوجوب تعليم الفتيات، والإصلاح الإداري والزراعي والصناعي مما يسمح بتطوير أسس بنيان الدولة. ولكن أهم ما كانت تنادي به هو الحرص على احترام حقوق الإنسان لاسيما قيم الحق والعدالة والحرية والمساواة التي تأثر بها مفكرو القرن التاسع عشر تأثرًا مباشرًا من الثورة الفرنسية. فضلاً عن فصل الدين عن الدولة في الحكم، وبذلك تكون الرابطة بين الشعوب وطنية وليست دينية، لأن ما يجمع الإنسان في الوطن الواحد هو الانتماء الوطني وليس الانتماء الديني، لأن الديمقراطية تزيل التمييز بين الناس وتساوي بينهم بالحقوق والواجبات. إن هذه القيم ساهمت في تطوير هيكلية السلطة وهرمية قيام الحكم في الدولة من أجل تركيب سياسي يتركز على حكم الشعب وهذه هي انطلاقة الديمقراطية في الولايات العربية في الإمبراطورية العثمانية. كل هذا يؤكد لنا أهمية مساهمة «المقتطف» في النهضة العربية من الناحية الفكرية والعلمية. ففي زمن التحولات والتطوير الإداري بعد التنظيمات العثمانية تأتي هذه المسائل والأفكار المطروحة رغم معارضتها وتقييدها في بعض الأحيان، لتسهل انتقال الفكر العربي من الركود إلى الانفتاح وطلب المعارف العلمية والعلوم التطبيقية. فالهدف الأساس للمقتطف ورجالاته في زمن الحكم العثماني هو تثقيف الإنسان العربي ورقيه، وبالتالي رقي الوطن- الأمة في سبيل النهضة حتى الوصول إلى الديمقراطية.
نتساءل هل يمكن أن نطرح اليوم في بلاد عديدة ما طرحته «المقتطف» من مواضيع منذ اكتر من 120 سنة ؟ كيف يعقل أن نسمي ما يحدث في أيامنا هذه ثورات عربية حيث تتكاثر فيها التغيرات لكنها تغيرات رجعية لا إصلاحية يقل فيها الانفتاح نحو الثقافة والعلم! كيف يمكن أن يكون هناك تغيير في زمن تكثر فيه الممنوعات و تقل فيه الحريات؟ في زمن القطب الواحد «والفكر» الواحد والحزب الواحد هل الثورة هي للانتقال إلى الحكم الواحد حيث لا مكان للتعبير ولا وجود للآخر المغاير؟ فإن لم يكن هناك مكان للتعددية الثقافية ولا سبيل للمشاركة في الحكم فما الهدف من الثورة والتغيير؟ فهل يمكن أن يكون هناك إصلاح من دون نهضة فكرية وعلمية وثورة من دون حرية وديمقراطية؟
اترك تعليقا