المسيحيون العراقيون : بين الماضي العريق والحاضر الأليم
في العراق مهد جغرافيا وروحانية الكتاب المقدس وموطن أقدم جماعة مسيحية في العالم، يتحول المسيحيون فيه إلى طائفة منقرضة، فكل مسيحي يحزم أمتعته يترك رسالة خطيرة عن ضمور الحجم الديمغرافي لمسيحيي المشرق وهذا نذير بزوالهم الوشيك.
إن عنف الجماعات الإسلامية المسلحة ضدهم بعد 2003 ومايحمله هذا العنف من ثقافة الإقصاء، من تدمير قراهم و قصف كنائسهم و نسف أديرتهم جعلت من المسيحي العراقي مواطناً من الدرجة العاشرة، الأمر الذي دفع بهم للهجرة بلا عودة إلى بلدان المنافي و الأمر الذي يدعونا للتساؤل إذا أصبح غريباً أن تتجاور الكنيسة مع الجامع وأن تتعايش العمامة مع اللباس الكهنوتي في العراق؟
إذا اضحى الأمرغريباً فدعونا نتذكر ما أسّسه المسيحيون في العراق لعل عقول هؤلاء تستيقظ.
في اللغة العربية و الترجمة: كان للسريان دور مهم في الترجمة والعلوم، أيام الدولة العباسية، وأدت الترجمة مهمة رئيسة في ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، فأتقنها العرب وخاصة المسيحيون واستوعبوا محتويات الكتب المترجمة، بعدما عربوها وأعادوا صياغتها وطوروا مضمونها وأجروا عمليات نقد عليها وأعادوا إنتاج الثقافات السابقة لهم. لقد ترجم المسيحيون من اليونانية والسريانية والفارسية، اشهرهم شمعون الراهب وجورجيوس أسقف حوران. وعيّن المأمون يوحنا بن ماسويه الذي ترجم وألف خمسين كتابا،ً رئيساً لبيت الحكمة وكان أبوه طبيبا، وحنين بن إسحق الذي كان أيضاً رئيساً لبيت الحكمة وقد ترجم 95 كتاباً، وقسطا بن لوقا وقد عيّن المأمون يوحنا بن البطريق أميناً على ترجمة الكتب الفلسفيّة من اليونانيّة والسريانيّة إلى العربيّة، وتولّى كتب أرسطو وأبقراط. لعل ابرز علماء اللغة العربية المحدثين الذين ساهموا مساهمة حقيقية في اثراء العربية ومصطلحاتها ومرادفاتها هو العلامة اللغوي انستاس ماري الكرملي الذي اصدر مجلته الشهيرة (لغة العرب)، وكانت علامة بارزة في تاريخ النهضة الحديثة، بل وتعد واحدة من اهم المراجع في اللغة العربية. اسس انستاس مدرسة لغوية إضافة لمنتجاته اللغوية والتاريخية الاخرى التي تعد من اهم ما ظهر من ابداعات في العراق، اذ لم يقتصر الرجل على اللغة، بل ساهم في كتابة تاريخ العراق .
في الصحافة: أسهم المثقفون المسيحيون العراقيون المتميزون اسهاما حقيقيا في تقدم الصحافة العراقية وتطورها بعد نشأتها الاولى في القرن التاسع عشر، ولقد كان اغلب رواد الصحافة العراقية من الموصل، اذ أثروا في هذا المجال بأدبياتهم وجهودهم وكانت لهم ميادينهم الصحفية المتنوعة وخصوصا في أواخر العهد العثماني و العهد الملكي في العراق باصدارهم صحفاً أساسية في الحياة السياسية العربية، ولابد ان نذكر تميز كل من سليم حسون (صاحب جريدة العالم العربي) وبولينا حسون (أول امرأة عراقية تصدر صحيفة نسوية ببغداد) وميخائيل تيسي (صاحب اول نقد هزلي صحفي) وغيرهم .
في التربية والتعليم: اشتهر المعلمون المسيحيون بقوة معارفهم وثقل ادائهم ولقد تربّت اجيال عراقية كاملة على ايدي مربين ومعلمين ومربيات ومعلمات مسيحيين ومسيحيات انخرطوا في المدارس العراقية على امتداد سبعين سنة من بينهم استاذ الفيزياء رمو فتوحي الذي كان واحدا من ابرز رجالات التعليم في العراق ايام كلية بغداد الثانوية . أضف إلى ذلك دور الاطفال المسيحية في بعض المدن العراقية، تلك التي كانت الراهبات العراقيات يشرفن عليها، ومنها روضة ام المعونة بمنطقة الدواسة الشهيرة في الموصل التي إشتهرت بنظامها التربوي الرائع.
في الطب: اشتهر العراق باطبائه ، كبختيشوع الذي كان مسؤولا عن الطب في الدولة العباسية وخدم كطبيب خاص للخلفاء العباسيين. يذكر أن بختيشوع كان ينتقل في بغداد بعربة من خشب الأبنوس، وكان له حوالي ألف خادم. وهنا لا يمكن نسيان ما قدمه المسيحيون من خدمات طبية، خصوصا في تأسيس المستوصفات والمراكز الصحية منذ قرنين على ايدي الاباء الدومنيكان كما ولا يمكن تجاهل دور مستشفى الراهبات بمنطقة الكرادة في بغداد وتميزها في القرن العشرين عن غيرها من المستشفيات.
في ميدان الآثار والتنقيبات: لقد كانت البوادر الاولى للكشف عن كنوز العراق وآثاره تلك المحاولات التي قام بها القنصل الفرنسي إميل بوتا ومن بعده هنري لايارد الانكليزي في منتصف القرن التاسع عشر وبالتحديد سنة 1840. وقد اعتمدت هذه البعثات على مواطنين من الموصل بغية مساعدتهم في مهامهم ، وكان لايارد قد اعتمد على شخص موصلي يدعى هرمز بن القس انطوان رسام الذي بدوره ومع الايام ساهم مساهمة فعالة في عمليات التنقيب واصبح من البارزين في حقل الآثار والّف اربعة كتب بالانكليزية طبعت في لندن والولايات المتحدة كان اولها سنة 1879 بعنوان « الاكتشافات الاثرية في بلاد آشور».
المسيحيون العراقيون ساهموا في بناء العراق على امتداد الأزمنة، كما ان لبعض رجالاتهم وعلمائهم ورحالتهم ولغوييهم فضلا بارزا على النهضة العربية الحديثة في القرن التاسع عشر ومن الاهمية ادراك ذلك من اجل اتاحة فرص تاريخية جديدة ليس للتعايش الاجتماعي والشراكة السياسية في العراق فحسب، بل من اجل ان تهيىء الفرص في المستقبل كي تعود جاليات عراقية كبرى من المهجر بكل خبراتها وكفاءاتها الى ارض الوطن. فالتعود الذاكرة للوراء للتفكير في شأن هؤلاء الذين يسمونهم ‹ اقلية ‹ وما قدموه من خدمات وابداعات ومشاركات للعراق اجمع حتى تدرك تلك التي يسمونها بـ ‹ الاكثرية ‹ بأن للمسيحيين العراقيين هم أبناء حقيقيون للعراق، آملين ان نرى كل العراقيين سواء كانوا من المسلمين ام المسيحيين متضامنين بوحدتهم الحضارية.
اترك تعليقا