أميركا والإبادات الثقافية - منير العكش
يكشف الكتاب عن حقيقة الثقافة الفوقية التي رسمت قناعات وسياسات وتاريخ الانجليز «واستحوذت على ألبابهم وعقولهم»، والتي تتلخص في اقتناعهم، بل إيمانهم، بأن «الانجليز هو شعب الله المختار على الأرض» لنشر «الحضارة» وأن «الله رجل انجليزي» ، لذلك قامت إمبراطوريتهم الاستعمارية على ثقافة التضحية بالآخر، بكل ما تحمل هذه الكلمات من معان وحشية تحقق الإبادة التامة والكاملة لوجود وثقافة الشعوب الضعيفة، من ذبح البشر، وسلخ فروات رؤوسهم، وقتلهم بالكوليرا والجدري.
ويوضح الكتاب أن الهدف الذي أنشئت من أجله مدارس تعليم الهنود الحمر هو إبادة الهندي بمعناه الثقافي و خلق بديل عنه يرضى بالأمر الواقع. كما يستعرض شهادات لأطفال الهنود الحمر الذين انتزعوا بقوة السلاح من أسرهم إلى معازل خاصة تجردهم من كل شيء أولها الأسم حيث تحولت الأسماء الهندية إلى أسماء إنجليزية مسيحية .
هذه هي المفاهيم التي يتوارثها الانجليز جيلاً بعد جيل ويثبتون معها ثقافة العنجهية التي وصفها الكاتب بثقافة «الجلاد المقدس» الذي يمارس آداب «مسخ الآخر»، و»عبادة الذات»، و»تقديس الجريمة»، بدعوى لنشر «الحضارة» عبر المعايير والنظم والقيم الاستبدادية. و يرتكز الكاتب على ما ورد في التوراة حول إبادة الكنعانيين إذ «أمر الله يشوع أن يبيد الكنعانيين الذين لم يكونوا يختلفون عن هنود اليوم، ثم إنه عوقب على تقاعسه عن الإنصياع لأمر الله» ومن هنا مصدر كلمة «كنعنة»، و كأن مهمة الإنكليز كانت وقتها مهمة آلهية.
هذه الدلالات، التي جاءت في مقدمة الكتاب، استمدها الكاتب من خلال التقارب الشديد لذلك التاريخ مع السلوك الانجليزي المستعمر والمحتل، قبل ذلك التاريخ، في احتلاله لأيرلندا، وبعد ذلك التاريخ، في احتلاله واستعماره شبه جزيرة الهند والمنطقة العربية، وأخيراً في فلسطين والعراق، فكان التقارب مطابقاً لم يتغير خلال قرون من التاريخ الاستعماري الذي كان الإنجليز عموده الأساسي الممتد لداخل الإدارة الأمريكية بسياساتها الوحشية في العالم.
يفتح العكش عيوننا على ما يعتقد أنه ينتظرنا من فكرة أمريكا، التي هي خطاب فكري ثقافي لا أخلاقي للأمة الإنكليزيّة البروتستانتيّة التي تمتد من لندن إلى واشنطن. سيذهل القارئ العربي وهو يقرأ الكتاب، بما اقترفه رؤساء أمريكيون لهم شهرة عالمية، وسمعة طيبة في الإنسانية، من حروب إبادة، يتقدمهم إبراهام لينكولن الذي أمر بإعدام 37 من رؤساء القبائل الهنديّة، وجورج واشنطن، وغيرهما من قادة أمريكا، ناهيك عن كتّاب أمثال مارك توين الذي كان يلح على إبادة الهنود الحمر، أو تعليمهم لتبديلهم بحيث لا يعودون هنودا! وبالرغم من عدم إسهابه في التحدّث عن العامل الإقتصادي في عملية الاستيطان، إلا أن العكش لم يغفل الذكر أنّ الاستيلاء على الذهب والفضّة في تلك البلاد كان في طليعة الأهداف التي وضعها المستوطنون لنفسهم.
غاص العكش عبر الوثائق، والكتب، انطلاقا من همّ إنساني شغله لمعرفة الحقيقة، ومن ثم توصّل إلى أن ما حلّ بالهنود الحمر هو ما يحدث لنا كعرب، فزرع إسرائيل في قلب وطننا العربي، ليس بصدفة بل تحضير لكنعنة أخرى.
اترك تعليقا