في الجامعة الأميركيّة: السّنة الثّانية
وجاء رجل أميركي عجوز في التّسعين من عمره، ليزور الإرساليّة في رام اللّه، وليزور الأرض المقدّسة. كان غنياً جدّاً، وعلمت أنّه كان من الذين يتبرّعون بالمال لمساعدة الإرساليّة. كان سقيم الجسم ضعيف النظر. فاستأجروا له سيّارة سائقها من رام الله، وطالبوا إليّ أن أرافقه في سفراته القريبة بعد الظّهر. وأمّا في آخر الأسبوع، فكانوا يضعون له برنامجاً لزيارة الأماكن البعيدة في الأرض المقدّسة. وكانوا يهيّئون لنا زادًا وماءً، ويصرّون على رجوعنا مساءً. وهكذا زرت البحر الميّت، وأريحا وعمّان وبئر السّبع والخليل.
أذكر زيارة بئر السّبع. كانت سفرة مضنية، والطّريق وعرة غير معبّدة، والمسافة بعيدة جدًّا. غير أنّ السائق كان سائقاً ممتازاً يعرف الأرض المقدّسة معرفة جيّدة، إذ إنّه كان يرافق السّياح في زياراتهم للأرض المقدّسة. وكان نهار السّبت الذي خرجنا فيه من رام الله قاصدين بئر السّبع نهارًا حارًا جدًا. وعند الظهر، أصبح الحرّ خانقاً، وفعلاً خفت أن يموت العجوز الأميركيّ معنا، في تلك الصّحراء الموحشة. كان قد أضناه الحرّ والتّعب.
وصلنا إلى بئر السّبع، فإذا هي قرية حقيرة فقيرة موحشة. وكان قد أصابنا جوعٌ وعطش، فرحنا نفتّش عن مقهى أو عن فندق، أو عن ظلّ شجرة نتفيّأ تحت أغصانها، ولكن عبثاً حاولنا. ذباب، وغبار، وهواء حارّ! ولاحظ رجل، ربّما كان أستاذًا، ارتباكنا وحيرتنا، وحاجتنا الملحّة إلى الرّاحة. فتقدّم من السيّارة وقال: أنا وكيل الإرساليّة الاسّكوتلنديّة، وبسرور أدعوكم إلى المدرسة. ولكنّ المبشّرين ليسوا هنا. كلّ ما أستطيع أن أقدّمه لكم الماء، وغرفة للاستراحة. قلتُ له: شكرًا، هذا كلّ ما نطلبه. ذهبنا معه إلى المدرسة، وكان سرورنا عظيماً، إذ وجدنا ما كنّا نطلبه. ودعونا الرّجل ليشاركنا في الطّعام، فاعتذر. هكذا كانت بئر السّبع في ذلك العهد البعيد، وهكذا كانت طريقها الوعرة. أُخبرتُ أنّ الصّحراء الواقعة بين الخليل وغزّة أصبحت أرضاً زراعيّة مرويّة تصلح لزراعة الأناناس، وأنّ الغلاّت فيها وفيرة.
في العشرين من أيلول انتهت الدّروس، ودفع لي أمين سرّ الإرساليّة أجري، وأجرة السّفر. وكان العجوز الأميركيّ قد دفع لي مبلغ خمس ليرات فلسطينية مكافأة لي. ودّعنا التّلاميذ، وودّعت لاعبي التّنس في فندق عودة، وعدت إلى بيروت. ومن بيروت إلى رأس المتن لزيارة الأهل، ولتقديم هدايا من البَخور والصُلبان المصنوعة من خشب الزيتون.
اترك تعليقا