عصام بكداش - عاصم سلام : شخصية من الفروسية والحداثة والحكمة والريادة
ما كان عاصم سلام بحاجة لأداء دوره المميّز في اللجنة، الى علوم وفنون اختصاصه في الهندسة المعمارية التي هو فيها الرّائد مهنياً وأكاديمياً ونقابياً، بل كان يكفيه أن يشغّل بعض عناصر شخصيته الغنيّة الفريدة: فببراعته واقتداره وثقافته وحبّه للمصلحة العامة وهمّته قاد مسائل التخطيط والتنظيم، وعالج الشؤون الاقتصادية والمالية والإدارية، وأدار بنجاح التعاطي مع الشركات والمكاتب الاستشارية المحلية منها والأجنبية.
ومن حظّي أن تكرّمت الهيئة العامة لنقابة المهندسين وانتخبتني في التسعينات الماضية عضواً في مجلسها في ذات الفترة التي كان فيها النقيب عاصم سلام نقيباً، وسعدت بالعمل معه وبقيادته، إذ كان، كشأنه دائماً، مناضلاً عنيداً من أجل تعزيز النقابة ومقام المهندسين، ومن أجل تصويب مشاريع التنظيم المدني وخطط التنمية الصحيحة الشاملة.
وعلى الصعيد الداخلي للنقابة، فقد تمّ في عهده إنجاز إعادة هيكلية نقابة المهندسين وترشيد العمل في صندوقي التقاعد والخدمات الاجتماعية ووضع الأنظمة الأساسية التي لم تزل معتمدة لتاريخه ومنها النظام الداخلي والنظام المالي ونظام الموظفين.
كان عاصم سلام بفكره المنظّم وثقافته الواسعة وذوقه الرفيع وهمّته العالية ونبله وفروسيته وحبّه لجذوره الحضارية وتطلّعه إلى الآفاق الواسعة وحكمته، يكوّن بكل هذه المميزات شخصيةً إنسانيةً تجذب إليها الأصدقاء والمحبّين والأصحاب، خاصة أولئك المتطلّعين إلى تطعيم أعمالهم بالإنجازات التي تفوق ما قبلها، أو أولئك الشغوفين إلى إغناء حياتهم بالمفاهيم والمعاني التي تتفوّق باستمرار على ذاتها.
وأظنّ أن عاصم سلام، بأسلوبه الحياتي هذا، قد حقّق حلاًّ فلسفياً وعملياً رائعاً، يقتدى به، لإشكالية وجودية الإنسان الفرد ومجموع وجوديات الآخرين.
الوفاء والاحترام والمعزّة تجعلني أذكره في مواقع أو مسائل عديدة.
أذكره مرّة، وخلال السنين الأولى من الحرب القذرة أن صادفته في محيط الجامعة الأميركية، حيث كان أستاذاً في كلية العمارة فيها والتي ساهم في تأسيسها، وكان الطقس جميلاً ونور الشمس صريحاً لا يشوبهما المعتاد من زخّات الرصاص وسقوط القذائف، فهرعت إليه وتحدّثنا ثم سألته، كمرجع لنا دائماً، كيف ترى الأمور يا أستاذ عاصم، فقال لي، وهو يحاول إخفاء الألم ببسمة: «اسمع يا عصام، نحن أشبه بالذي يمشي داخل نفق طويل، ورأى في أفق النفق نقطة ضوء، فاستبشر خيراً، لكن سرعان ما تبيّن له أن نقطة الضوء ما هي إلا مقدّمة قطار ضخم يتقدّم نحوه». فساد الصمت لحظة، ثم مرّت بنا ضجّة ضحكةٍ تنمّ عن عجز ولا تخفي الغضب والرّفض.
بادر عاصم سلام ونظّم في نقابة المهندسين يوم القدس تحت مسمّى «القدس الآن»، ودعا إليه، للمساهمة في إبراز عمارة وتراث وأوضاع الحالة الراهنة لتلك المدينة الفريدة، كبار المختصين من مختلف البلدان. وما اختار عاصم سلام هذا الموضوع إلا لأن مدينة القدس هي رمز لصراع المنطقة مع الكيان الإسرائيلي. فالاقتناع هو تام بأن هذا الكيان هو كيان مصطنع وغريب، وما تمّ زرعه ودعمه إلاّ من أجل الاستنزاف المستمر للمنطقة والحؤول دون تحقيق التنمية الصحيحة فيها وإنضاج شخصيتها الحضارية، وذلك لمصلحة القوى المسيطرة في العالم. وكنا نستحسن المقارنة بين المشروع الإسرائيلي وحروب الفرنجة (الحروب الصليبية) سواء لجهة الانعكاس التاريخي لكل منهما على المنطقة أم لجهة آلية تكوينهما. فحروب الفرنجة ساهمت كثيراً في انقطاع الدورة الحضارية، وزاد لاحقاً في الطين بلّة غزوات موجات المغول. وكما كنّا نتساءل عن مقدار مسؤولية هذه الحروب والغزوات في عدم انتقال وانتعاش المنظومة الفكرية للفيلسوف الأندلسي ابن رشد وغلبة التيار الغيبي المعاكس ممثلاً بالإمام الغزالي في بغداد. (كتاب «التهافت» للإمام الغزالي وكتاب «تهافت التهافت» لإبن رشد). أما لجهة آلية تكوين الكيان الإسرائيلي فهو أكثر تطوراً وخطورةً من مشروع حروب الفرنجة.
رغبت أن أزور بيت عاصم سلام في أول أيام عيد الأضحى (يوم الجمعة في 26/10/2012)، وأن أسأل خاطر شريكة حياته الست العزيزة ﭭاسو، تحدّثنا عن تطور الأوضاع الصحية لكبيرنا عاصم سلام، وكانت السيدات بناته في حراك دائم، هممت بالخروج، والظاهر أن عاصم سلام عَلِـم وهو في غرفته بوجود زائر، فقالت الست ﭭاسو أن أدخل عند عاصم فهو يريدك، دخلت فوجدته في سريره، فرحنا نتكلم بعبارات سريعة بين الجد والمزاح، ثم مرّت بنا ضجّةُ ضحكةٍ كأنها كانت هروباً من عاصفة الحزن وانغماساً في حقيقة العجز والاستسلام، وربما تعبيراً عن تهكّم دفين من مصير الإنسان وقدَره.
غادرت عاصم سلام، ورجوت العزيزة الست ﭭاسو ألاّ تتجاوز معي بوابة حديقة الدّار، وشددت على يديها مرة أخرى، ورُحت أمشي ما تبقّى من خطواتي إلى حيث هناك لقاء.
* عصام بكداش من ألمع المهندسين اللبنانيين، شغل مناصب إدارية رفيعة في وزارة الأشغال العامة والنقل كما تولى إدارة مرفأ بيروت.
اترك تعليقا