رسائل إلى صديق هناك (5)  انتحار وفوضى

رسائل إلى صديق هناك (5)

انتحار وفوضى

بقلم جـــــــواد نــــــديم عـــدره

جريدة النهار - 13 آذار 2021

الصديق العزيز،

فاجأتني بذكرك لصديقنا الآخر والذي كنّا قد آلينا على النفس محاولة تناسي مأساة انتحاره هذا مع العلم أنه لم يغب عنّي وعنك وعن صديقنا الناسك لحظة. كنّا نعرفه جيداً فكيف لم نتوقع المأساة؟

في العام 1976 أنا في أميركا وصديقنا الناسك في أوجّ حماسه دفاعاً عن "الحريّة والسيادة والاستقلال" و"فينيقية لبنان" دون "سلاح فلسطيني" ودون "غرباء". وأنت تعمل نقابياً مع "الطبقة الكادحة" "في مواجهة الطغمة الحاكمة" و"الإمبريالية". والصديق الذي افتقدناه والحالم بوحدة سورية وعربية يقف مفجوعاً بما يحدث حوله. هل تذكر الصدمة على وجهه وعواصف أسئلته تتزايد يومياً على وقع الحرب؟ وهذا بعض مما كتبه لنا في رسالته الأخيرة.

عن المذابح والتهجير في مختلف المناطق:

"ماذا يعني أن تعمّ المذابح من السبت الأسود إلى الكرنتينا والمسلخ والدامور وشكا وتل الزعتر وبريح والقاع وأن تستمر آلة القتل والخطف والمذابح الجماعية ويصبح البشر دميه ممزقة الأطراف في لعبة الأمم".

وعن الأعوام 1982 و1985 و1988 و1989 و1990 "ها هو الإسرائيلي يصل إلى بيروت ونحن نتقاتل في الشوف وعاليه. الجريمة في كل مكان تنتقل إلى مذبحة كبرى في صبرا وشاتيلا".

وعن 1992 وما بعدها: "هل يعقل أن تنتهي الحرب بقانون عفو دون مصالحة ودون غفران وننتقل الى البذخ والاستهلاك وكأنّ شيئاً لم يكن؟"

ماذا يعني أن تستمر اللعبة قبل الطائف وبعده فتُنهب البلاد وتُذل الناس وتهدر ثرواتهم وهم لا يدرون؟

وهل تذكر فرحته في العام 2000 حين انسحبت إسرائيل وحُرر الجنوب بعد 22 عاماً من النضال؟

هل تذكر كلامه عن الحاجة الى حلول سريعة وفعّالة لمشاكل تزايد السكان ونضوب المياه واتساع الجفاف والاتكال على النفط كمصدر أساسي للثروة وضعف الخدمات في جميع المدن العربية؟

وقوله لنا: ألا يستحق هذا الشعب أن يطرح الأسئلة وأن يكن له على الأقل، حق معرفة الأسباب لحرب أهلية دامت 15 عاماً وكيف استمرت في حرب مالية اقتصادية ستفلس الناس والأجيال القادمة؟

وفي الــعام 2005: "

حين رأى الإنقسامات العامودية ورأى أنّ الدمار الذي أصاب العراق سيصيب سوريا وأنّ إسرائيل ستصبح أقوى نفوذاً في غياب لأي كتلة عربية متماسكة فالبلاد سيتنازعها غير العرب، كتب:

مرّت الحركة الصهيونية بأربع مراحل: 1- التأسيس في (1897)، 2- الاستيطان والعمل على تأسيس الدولة (1920-1947)، 3- إشهار الدولة رسمياً والتوسع (1948-1967)، 4- اسرائيل القوية والغاء الآخرين (1967 وبعدها) بحيث تصبح هي الأساس وكل من حولها من دول وشعوب مجرد عشائر وأفراد يقتتلون ويسعون للبقاء. لقد سبقونا وسنغدوا لا شيء أمامهم".

وكتب أيضاً:"إن أردت أن تدمر بلداً: نظّم عملية تهديم المجتمع من الداخل، سيطر على عقول الناس بحيث يرون الأمور كما تريد وذلك عبر إسقاط المهنية في الأعلام وتسخيف البرامج التربوية وتذويب الثقافة واللغة وضع المؤيدين لك في مراكز القرار في القطاع العام واصرف اصرف بل اهدر واهدر وليدفع الناس الثمن".

وكتب عن الخطر الوجودي على كافة الكيانات في منطقة بلاد الشام والرافدين مخصصاً لبنان "تذكرون كم كنت منتقداً لهذا الكيان الذي أسموه دولة لبنان الكبير والذي لولا معاهدة سايكس- بيكو لما كان، لكنّني اليوم وبذات الحماس الذي كنت أعيشه ضد هذا الكيان أنا قلق عليه وإنّي أعتقد أنّ الواجب يقتضي الدفاع عنه وبحماس أقوى لاستبقائه واحداً موحداً".

وفي ذلك العام (2005) أخذ قراره المصيري بإنهاء حياته:

"أنا ذاهب إلى حيث يتماهى الناس، والمواضيع، والأشياء فتتجلى الحقيقة في يقظة السكون، فلا طمع، ولا حقد ولا خوف.

فحيثُ سأكون ستحيطنا المعرفة، ويلفّنا الحب، فلا طفل ولا شيخ، ولا سلطان ولا تابع، ولا عرب ولا عجم، بل أرواحاً موحدة متناغمة تتراقص مع سيمفونية ما وراء الحياة والموت. أفغانستان، لبنان، أميركا، روندا وكوبا والعراق والكويت، فحيث يقتل طفل (كلنا أطفال) أكون". كان علينا أن نتوقع خياراته بعد كل هذه المعاناة.

يروى أنّه في احدى قرى إقليم الخروب في الشوف كان رجل يدعي الحكمة والمعرفة ويلجأ اليه أهالي القرية البسطاء لحل المشاكل والصعوبات التي يواجهوها في الحياة. وحدث أن بقرة أحد المزارعين أدخلت رأسها في خابية كانت تشرب منها المياه. وحار أهل القرية في حل هذه المشكلة فعمدوا الى طلب رأي "حكيم القرية" الذي قال لهم اقطعوا رأس البقرة وبعدما فعلوا ماتت البقرة وبقي رأسها في الخابية، فقال لهم اكسروا الخابية واستخرجوا الرأس منها.

وهذا ما حصل وبذلك خسروا البقرة والخابية واستمر الحكيم بآرائه واستمر الناس يسمعون رأيه، وهذه هي حالتنا مع القوى السياسية التي تراهن على حلول الخارج وعلى وهن الداخل.

وهكذا تقودنا هذه القوى، في سعيها للبقاء أو للحفاظ على ما تبقى من قواها، إلى الفوضى الشاملة أملاً بأن يستجمعوا قواهم مجدداً ولو على حساب الناس والكيان.

اترك تعليقا