قصة رجل مبدع-بقلم د. فوزت فرحات - د. غالب فرحات
وهو رجلٌ حوَّل الفرصة إلى قدرة، يشاور ويحاور ويتصف بالمعرفة والحكمة والكلمة الطيبة وسداد الرأي والتمكن من إيصال الفكرة دون لبس وشدّ عصب من حوله للانطلاق قدماً إلى الأفضل والأمثل. كان التفاؤل جزءاً أساسياً من أقواله، والمحبة ركناً جوهرياً من أعماله، لا يعادي أحداً (حتى من يعاديه ويسيء إليه) ولا يميزُّ بين الناس على أساس انتماءاتهم السياسية أو الطائفية أو المذهبية أو الفئوية، بل على أساس المعرفة والكفاءة والقدرة على العمل والتفاعل. تميَّز بالتواضع، ونكران الذات، فلا يُقبل على خطوة دون أن يستشير المقربين منه أو البعيدين عنه من أصحاب الخبرة والاختصاص، يشجعُّ العاملين معه على المساهمة في تقديم أفضل الأفكار وبلورتها، ويبحث فيهم عن أصحاب الكفاءة لتولي المسؤوليات الأساسية والمهمات القيادية، فيعطي كلاً منهم فرصته للتقدُّم والتألق، في مناخ من الألفة والمودة والاحترام والإقدام والمثابرة والتنافس الإيجابي في سبيل الإدارة والمجتمع، كما في سبيل الوطن والمواطن.

إنه مدير عام المعهد الوطني للإدارة، الذي يصل إلى المعهد قبل الدوام ويغادر بعد أن يحلَّ الظلام (واحياناً في منتصف الليل أو بعده) ولا يعرف إجازة ولا فرصة ولا عطلة نهاية أسبوع ولا عيداً إلا وللمعهد ومستقبله فيه نصيب... فلم يفوت الفرصة المتاحة للمشاركة في عملية الإصلاح الإداري عبر ورش التنمية البشرية المستدامة (إعداداً وتدريباً لكوادر الدولة وقيادتها الشابة)، فبدل أن يأتي الموظف ليتدرب للتثبيت في وظيفته أو للترفيع إلى فئة أعلى، وبدل أن يأتي المقبولون في مباريات مجلس الخدمة المدنية ليتم إعدادهم قبل الالتحاق بالإدارات العامة، أراد هذا الرجل الرؤيوي أن يُخرَّجهم طلاباً ينشدون الخدمة العامة، فزرع فيهم إرادة الإصلاح وأزال من نفوسهم اليأس والإحباط، وبثَّ فيهم أملاً بمستقبل أفضل، انطلاقاً من شعار أن التغيير البنَّاء يبدأ من داخل كل إنسان ليكبر تدريجياً ويعمَّ في مساحات أوسع قد تصل يوماً إلى مستوى الوطن بأسره.

وكان له ما كان، فوضع برامج إعداد وتدريب هادفة، حديثة، تنطلق من المخرجات التي يريدها في موظفي المستقبل، المتمكنين من العلوم والمعارف والمهارات وبناء القدرات، وتضمنت هذه البرامج غير التقليدية مئات المواد الأساسية والمواضيع المستجدة التي تصنع من الموظف قائداً. ولم يقم هذا المدير القدوة بتكرار نفسه في الدورات التدريبية المتعاقبة بل بنى برامجه على مستوى عال من الحرفية، كما اختار طاقماً تعليمياً وتدريبياً محترفاً ومتنوعاً يضمُّ مفكرين وأكاديميين ونخباً من الإدارات العامة ومن التعليم العالي الرسمي والخاص ومن القضاء الإداري والمالي والعدلي ومن الخبراء المختصين... حتى يكاد المرء يرى بأم العين ندِّية المعهد الوطني للإدارة لمعاهد عالمية مماثلة في أرقى الدول المتقدمة، شكلاً (في مبنى المعهد وصيانته ونظافته ورقيه) ومضموناً (في تقديم أفضل الخدمات في التنمية البشرية ببشاشة ظاهرة وترحاب قلَّ نظيره).
ولذلك تراه يسعى ليكون المعهد الوطني للإدارة مؤسّسة تعليمية وتدريبية رائدة تمنح شهادات عليا بعد التخصصات الجامعية الأم، فتكون توأم الجامعة اللبنانية وشريكها في بناء الوطن الذي نريد...

والأهم أن كل هذه الإنجازات الملموسة جاءت في إطار تخطيط واع لمستقبل الإدارة العامة اللبنانية، بأقل الموارد المالية (إذ مازالت موازنة المعهد متواضعة جداً مقارنة مع نتائجها الفعلية المتصاعدة)، وبأقل الموارد البشرية (إذ يعمل في المعهد 12 موظفاً وحسب، بمن فيهم المدير العام).

إنه النموذج المرتجى لرجل الإدارة الحديثة، الرجل الأنسب في المكان الأنسب، إنه الرجل العصامي والمبدع جمال الزعيم المنجد، ابن طرابلس الفيحاء الذي بنى نفسه بنفسه، والذي آمن بإنسانيته ووطنه أولاً ثم بقدرته على التغيير الإيجابي في مناخات معقدة وتحديات متداخلة وظروف متشابكة، فكان له ما أراد في تجاوز نفسه والقدرات التي بين يديه.

تلك هي القيم المضافة التي نأمل أن تُعمَّم لدى قيادي الإدارات والمؤسَّسات العامة، قيم الرجل الذي يزرع علماً ومعرفة وخبرة وإبداعاً وصبراً وأخلاقاً... فيحصد المجتمع قيادات إدارية شابة وواعدة، قد تغير مصير لبنان إلى الأحسن والأفضل والأرقى... وهذا ليس بالأمر المستحيل.

فهلاَّ حلمنا بربيع إداري لبناني مثمر؟
 
شاهد الجدول كاملا
 


 

اترك تعليقا