“كنعان” و “الكنعانيّون”
الشهرية – العدد 72 – تشرين الأول 2009
3
“كنعان” و “الكنعانيّون”
بقلم الدكتور حسان سلامة سركيس
تُطلق تسمية “بلاد كنعان” بشكلٍ عام على الأراضي الواقعة بين خليج الإسكندرون شمالاً وعريش مصر جنوباً، وبين الساحل المتوسّطي غرباً ومجاري العاصي والليطاني والأردن شرقاً. وكانت تربط تلك المناطق ببلاد الرافدين من جهة ومناطق آسيا الصغرى من جهةٍ ثانية علاقات تجاريّة وسياسيّة وثقافيّة ودينيّة وثيقة ومستمرّة. وقد عُثِر في بعض المواقع، كـ “أوغاريت- رأس الشمرة” في سوريا، و“مجدّو- تلّ المتسلّم” في فلسطين وغيرهما على كِسَر آجرّات مشويّة تحمل مقاطع من ملحمة “جِلجامِش” البابليّة المشهورة.
ورد اسم كنعان على آجرّات تمّ اكتشافها في أماكن متعدّدة، كـ“أوغاريت” و“ماري” (تل الحريري، على الحدود السوريّة - العراقيّة) و “إبلا” (تل مرديخ، إلى الجنوب الغربي من حلب في سوريا)، وغيرها، كما في الرسائل التي كان ملوك وأمراء ومجالس الدويلات الكنعانيّة يُرسلونها إلى البلاط المصري في أيّام الفرعون امنحوتِب الرابع-أخناتون في “تل العمارنة” في غضون القرن الرابع عشر ق.م. طالبين مساعدته على الأموريّين الذين كانوا يهدّدونهم من معاقلهم في مناطق عكّار السوريّة واللبنانيّة. غير أنّ ما من رقيم يُفيد بشيءٍ حول أصل كلمة “كنعان” أو معناها.
تشمل تسمية “كنعانيين” مجموعة شعوبٍ وقبائل سكنت المنطقة منذ نهايات الألف الثالثة ق.م.، بعد أن اندمجت بمن سبقها. وكانت تجمع هؤلاء أوجه قرابةٍ وتشابه ثقافيّ، لغويّ ودينيّ، من دون أي شكلٍ من أشكال الوحدة السياسيّة. وغالباً ما كانت المدن- الدويلات التي أسّسوها تتصارع في ما بينها، بحيث أنّ أهل “أوغاريت”، كانوا يعتبرون “الكنعانيّين” الآخرين بمثابة غرباء وأجانب.
ومن تلك الشعوب، “العبران”، وهم مجموعة قبائل كانت تجوب تخوم بادية الشام، وتعيش على الغزو والنهب أحياناً وتعمل كمرتزِقة أحياناً أخرى. ويبدو أنّ بعض عناصرها اندمجوا بكنعانيّي المناطق الجبليّة في فلسطين على إثر غزوات “شعوب البحر” في أواخر الألف الثانية ق.م.، وشكّلوا في ما بعد ما عُرِف باسم “بني إسرائيل” الذين استوطنوا المدن الكنعانيّة السهليّة والساحليّة بعد انهيار نظامها السياسي والإقتصادي.
وتُظهر الأبحاث المعاصرة أنّ واقع تاريخ هذه الجماعات يتعارض مع المعطيات التوراتيّة. فبروزها لم يكن سبباً في انهيار الحضارة الكنعانيّة بل نتيجة هذا الإنهيار الذي شجّع الرعاة من أهل الجبال على الإندفاع باتجاه الأودية والسهول الخصبة الواقعة بين سفوح الهضاب الفلسطينيّة شرقاً والسهول الساحليّة الخصبة غرباً واستيطانها. وتُفيد تلك الأبحاث أيضاً بأن لا وجود لأي خروجٍ جماهيري من مصر ولا لأي احتلالٍ عُنفي لبلاد كنعان، وأنّ تأليف هذه القصص حصل في وقت متأخِّر، بين القرنين السابع والرابع ق.م. لأسباب إيديولوجيّة. فبنو إسرائيل بغالبيتهم العظمى كانوا جماعات محليّة نشأت داخل بلاد “كنعان” ولم يأتوا من خارجها، وكانوا يسكنون المناطق الفلسطينيّة الجبليّة في عصري البرونز والحديد في الألفين الثانية والأولى ق.م. ومن الجدير بالذكر أنّ النزعة التأريخيّة الإيديولوجيّة التي تميّز بها مؤلّفو الكتب التوراتيّة، جعلت من “كنعان” إبناً لـ“حام” الذي لعنه “نوح” وجعله عبداً لأخيه “سام” (تكوين 9،26).
ومن تلك الشعوب أيضاً “الموآبيّون”، الذين ورد ذكرهم في القرن الثالث عشر ق.م. في أحد نصوص “رعمسيس الثاني” في “الأُقصُر”، واستوطنوا الهضاب المشرفة على البحر الميت من جهة الشرق. بيد أنّ تفاصيل تاريخهم ما زالت مجهولة، باستثناء ما ورد في التوراة والحوليّات الأشوريّة حول بعض ملوكهم الذين اشتهر من بينهم “ميشع” الذي ثبّت مملكته في أواسط القرن التاسع ق.م. وترك نصباً خلّد فيه انتصاره على دويلات “أدوم” و“يهوذا” و”إسرائيل”.
أمّا “الأدوميّون”، فقد ورد اسمهم في النصوص المصريّة في أواخر القرن الثالث عشر ق.م. وفي التوراة. وقد استوطنوا المناطق الجبليّة الواقعة إلى الجنوب من البحر الميت وأسّسوا لهم مملكة في بدايات الألف الأولى ق.م. وأصبحوا، مثل “المؤآبيّين”، تحت السيطرة الأشوريّة في القرن الثامن ق.م. ومن أبرزِهِم “هيرودس الكبير” (37-4 ق.م.) الذي حكم وسلالته فلسطين أو بعض أجزائها في ظل الإمبراطوريّة الرومانيّة حتّى أواسط القرن الميلادي الأوّل.
أضِف إلى ذلك جماعات “العمّونيّين”، الذين أسّسوا دويلة في منطقة “عمّان”، عاصمة الأردن الحاليّة، وورد ذكرهم في النصوص الأشوريّة في القرن التاسع ق.م. وفي بعض النصوص التوراتيّة. فضلاً عن “اليبوسيّين”، الذين استوطنوا منطقة القدس، بحسب ما جاء في التوراة، وغيرهم ممّن لا يرى بعض الباحثين فرقاً كبيراً بينهم وبين الكنعانيّين.
يتبيّن من خلال هذا العرض الموجز ضرورة عدم التوقّف أمام بعض التحليلات العشوائيّة والتفسيرات السطحيّة المتعلّقة بمسائل الأصول والجذور، التي تؤدّي حتماً إلى تشويه التاريخ ودفعه باتجاه إيديولوجيّات عنصريّة. فجميع الشعوب، قديمها وحديثها، تكوّنت بنتيجة اختلاطات وتزاوجات أواغتصابات حصلت بين مقيمين ووافدين أو محتلّين أو شذّاذ آفاق. وليس من شعبٍ يستطيع تأكيد “نقاوة” أصوله، وإلا لكان اندثر منذ أمدٍ بعيد جداً بسبب تراكم العيوب والشوائب الوراثيّة فيه.
اترك تعليقا