الحالة اللبنانية: نظام استنباط السبل والتدابير
الحلقة الثالثة (3/6)
عرضنا في الحلقة الثانية لبنان قبل الطائف وبعده، والتدخّل الخارجي، وحقبة ما بعد الانسحاب السوري. نستكمل في هذه الحلقة نظام استنباط السبل والتدابير.
أ. حالة مرضية أم حالة فرضية؟
لا بدّ لنا بعد هذه المراجعة للسياق التاريخي من التساؤل عمّا إذا كانت كلمة «فساد» تعبّر وتصف بشكل دقيق الحالة اللبنانية العامة. يدرك اللبنانيون أن «الفساد» خطأ. فقد أظهر «الاستطلاع المرجعي حول الفساد في لبنان» الذي أجرته «الدولية للمعلومات» في العام 1999 بتمويل من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID أن نسبة عالية من اللبنانيين (46% إلى 72%) يدركون مفهوم «الفساد»، ويعون ما يستتبعه هذا المفهوم (من رشوة، واستغلال للسلطة، وسوء إدارة للموارد المالية، وتضارب في القوانين وتعدّدها، إلخ)، مقابل نسبة ضئيلة فقط من المواطنين (1.2% إلى 9.4%) الذين أبدوا نوعاً من اللامبالاة إزاء هذا الوضع. بالإضافة إلى ذلك، أعربت غالبية ساحقة بلغت 98.6% عن اعتقادها بأن الفساد يعمّ كافة القطاعات في لبنان، كما أكّد 95% على أنها ليست ظاهرة جديدة (45.1% نسبوها إلى عهد العثمانيين، و12.7% إلى الانتداب الفرنسي). أما بالنسبة إلى السؤال عن أكثر شرائح المجتمع اللبناني فساداً، فأجاب 24.3% «الدولة برمّتها»، في حين حصر 21.4% إجابتهم بالطبقة السياسية، و14% بالوزراء، و10.3% بأعضاء مجلس النواب، و95% اعتبروا أن مسؤولي الدوائر الحكومية هم الأكثر فساداً. أمّا أبرز أسباب الفساد التي حُدّدت فكانت: عدم فعالية أجهزة الرقابة، عدم وجود قوانين لحماية المواطنين، ضعف التربية المدنية. كما اتفق 65.2% على أن الفساد ناتج عن نفوذ رجال الدين، وأدانوا التدخّل الديني في شؤون الدولة السياسية والإدارية. تشير هذه المعطيات إلى أنّ الشعب اللبناني بمختلف طوائفه وفئاته العمرية ومن كلا الجنسين ومختلف المستويات التعليمية ومستويات الدخل والمناطق قد توصّل إلى إجماع على مسألة وجود الفساد وتحديد خصائصه ودلالاته»(1).
وقد أظهر استطلاع آخر للرأي أجرته «الدولية للمعلومات» مؤخراً في أيلول 2005 أن 75.8% من المستطلعين يعتقدون أن مكافحة الفساد يجب أن تكون في أعلى سلم أولويات عمل مجلس النواب، في حين طالب 46.5% بإقرار قانون انتخابي جديد، و43.2% بالعمل على تخفيض الدين العام، و34.5% بإلغاء الطائفية السياسية، و24.2% بإطلاق سراح سمير جعجع، و21.2% بنزع سلاح حزب الله، و19% بإقرار خطّة للتنمية المتوازنة، و14.1% بمسألة التوطين، و6.6% بإقرار قانون عصري للأحزاب، و5.8% بإقرار مشروع السلطة القضائية المستقلّة. لا شكّ أنّ موضوع الفساد هو من المواضيع القليلة التي يجمع عليها اللبنانيون(2).
إزاء هذا المستوى العالي من الوعي والإدانة الصريحة لآفة الفساد، ثمّة سؤال بديهي يطرح نفسه: لماذا لم يتمّ التوصّل إلى إحداث أيّ تغيير، ولماذا يستمرّ اللبنانيون في عيش حياتهم بشكل يتناقض مع ما يطالبون به؟ قد يتضمّن الجواب عوامل معيقة عديدة مثل عدم استقلالية القضاء أو سوء قوانين الانتخاب. لكن الأهم من ذلك كلّه قبول اللبنانيين بهذا النظام ورموزه.
يريد اللبنانيون في الواقع استبقاء الوضع الراهن الذي طالما خدم مصالحهم على أحسن وجه. ويعتبر الدكتور جورج يعقوب في دراسته التي سبق وأشرنا إليها أن «معظم اللبنانيين، باختلاف طوائفهم ومراكزهم الاجتماعية وانتماءاتهم السياسية وثرواتهم، لا يريدون تغيير واقع النظام الحالي، ليس لأنهم غير مدركين لمخاطره ونتائجه، بل لأنه بات لديهم مصلحة في الإبقاء عليه، وبالتالي أي تغيير بإمكانه أن «يهزّ» حقوقهم وامتيازاتهم المادية والمعنوية». كما أن الفساد قد تحوّل إلى مؤسسة أو طريقة عيش يعتمدها شعب ومجتمع خائف، يفضّل المضيّ بالاستفادة منه بشكل مباشر بدلاً من استجماع شجاعته وخوض تجارب مختلفة واعتماد خيارات جديدة.
التعيينات في إدارة حكومية على الرغم من فائض الموظفين فيها، التهرّب من الضرائب، التعدّي على الأملاك العامة، وسلسلة لا تنتهي من الانتهاكات هي أمثلة عمّا يعتبره البعض من منافع هذا النظام. لذا فالمستفيدون مُطالبون بالتغاضي عن نوعية الخدمات والمساومة على حقوقهم الأساسية كمواطنين.
يمكن إذن استنتاج خصائص هذا النظام. لقد أمّن استمراريته منذ العهد العثماني حتّى تاريخ لبنان المعاصر كما سبق وأظهرنا؛ إنّه عنصر مكوّن أساسي، من صلب البنية الاجتماعية والسياسية في لبنان. كما أنّ الشكوى من النظام» هي بدورها مكوّن آخر من مكوّنات النظام نفسه. فلطالما تذمّر رجال السياسة والدين والشعب بشكل عام من «الفساد» مدينين هذه الظاهرة، إلاّ أنهم قد تعلّموا كيفية التعايش معه. قد يعتبره البعض كشكل من أشكال التكافل الاجتماعي، من الهدر واقتسام الغنائم والكسب غير المشروع والاختلاس إلى الاستفادة البسيطة من مصالح معيّنة. يجبر هذا النظام كافة اللاعبين على ممارسة لعبة إلقاء اللوم والإطراء تبعاً للظروف ومن دون أيّة غاية جوهرية، باستثناء بقاء النظام. يعترف مختلف اللاعبين بلا أخلاقية النظام على الرغم من إدراكهم لدورهم الفاعل ومساهمتهم فيه. تتمّ الاستعانة واستمالة التدخّل الأجنبي وفقاً للوضع الإقليمي، مثل الاستعانة بفرنسا وإنكلترا ومصر وسورية والولايات المتحدة وإسرائيل.
ب- إيكال السلطة
إن موضوع السلطة والعلاقة معها يستحق الكثير من الدراسة ...
يؤكد الدكتور شربل نحاس في كتابه «حظوظ اجتناب الأزمة وشروط تخطّيها»، «... ما يبدو ثابتاً في هذه التجارب جميعها... أولاً إيكال أمر السلطة إلى احترافيين غير سياسيين مقابل تسليم مرجعية السلطة إلى الخارج، وثانياً انصباب جهد هؤلاء الاحترافيين على استبقاء الوضعية التي يعملون ضمنها دون السعي إلى بلورة مشروع سياسي واجتماعي عام فيتمّ استيعاب الأزمة الاقتصادية دون حلّها (كما في التسعينات)، أو تهدئة الحرب الأهلية دون تخطّيها (كما في الثمانينات)، أو تجميد لا موقع لبنان ضمن التوازنات الإقليمية دون استيعاب آليات تطورها (كما في الستينات)»(3).
ج. أفضل الممكن
إنها التسوية التي استنبطها اللبنانيون من أجل تدبير شؤونهم الحياتية في ظلّ ظروف اجتماعية وسياسية شبه دائمة. إنه تدبير عقلاني ومنظّم، على خلاف ما قد لاحظه الكثيرون. تُعتبر مسألة تنظيم حركة السير في لبنان مثالاً مناسباً لبرهنة هذه الفرضية. فتكاليف المنافع المباشرة التي يستفيد منها كلّ من المواطنين والطبقة السياسية باهظة جدّاً كما نستشفّ من الرسم البياني أدناه. يصبح استبقاء الوضع الراهن نظراً للعوامل المعيقة الرئيسية التي ترتبط بالوضع السياسي والاجتماعي حلاً عقلانياً وإن كان مكلفاً.
د. لعبة الرابح دائماً والخاسر دائماً
لقد استطاع اللبنانيون اعتماد طريقة عيش تفوق قدراتهم الفعلية، وذلك وفق معايير عالية جداً بالنسبة إلى المنطقة، نظراً إلى ثلاثة أسباب: الأموال المحوّلة من المغتربين لدعم عائلاتهم المقيمة في لبنان، وتدفق رؤوس الأموال من الدول الخليجية، وتوفر اليد العاملة الرخيصة من سوريا وسريلانكا والبلدان الإفريقية. كما ساهمت هذه العوامل في تطوّر قيم مجتمع استهلاكي بدلاً من مجتمع منتج، وذلك على المستويين العام والفردي. نتيجة لذلك، استطاعت الحكومات اللبنانية المتعاقبة، خاصة تلك التي حكمت بعد اتفاق الطائف، الاستدانة بشكل مفرط من المصارف اللبنانية الخاصة بمعدلات فائدة مرتفعة للغاية من أجل تمويل الهدر والفساد في القطاع العام، ممّا خلق نوعاً من الافتراض لدى كلّ من الرأي العام والمسؤولين بأن الموارد كثيرة ولا تستنزف (على الرغم من الدين العام المتزايد) فاعتبروا أن الجميع سيربح في النهاية، ممّا شجّعهم على استبقاء النظام وإعاقة كلّ محاولة تسعى إلى الإصلاح أو المحاسبة.
غير أن واقع اللعبة الفعلي مختلف، إذ أن فوز فريق يعني خسارة فريق آخر في ما يتعلّق بالزعماء السياسيين والدينيين نظراً إلى المنافسة الضارية في ما بينهم على المناصب والموارد. فالفوز الذي تحقّقه طائفة معيّنة إنما هو خسارة بالنسبة إلى أخرى. لقد ساهمت هذه اللعبة أيضاً في ضمان استمرارية الوضع وإضعاف مبادرات المحاسبة. قد يكون الاتفاق الذي توصلت إليه مختلف الطوائف على عدم «فتح الملفّات» أو إجراء التحقيقات في قضايا الفساد المفضوحة، على الرغم من الخطابات التي لا تنتهي عن ضرورة مكافحة هذه الآفة والتعهّد بالإصلاح، خيرَ مثال على ذلك.
من الأمثلة الأخرى على ذلك قانون الإعدام. فمن اللافت للانتباه – والمقزّز في الوقت نفسه – أن السؤال الأوّل الذي يُطرح عند الحديث عن أيّ قرار بالإعدام لا يتناول السبب أو الجريمة أو الزمان أو المكان أو الأداة، إنّما طائفة المحكوم. فلتطبيق هذا القانون في لبنان، لا بدّ من أن تُرتكب الجرائم بشكل تناسبي من قبل أشخاص ينتمون إلى كافة الطوائف، كما يجدر بالعقوبات الصادرة أن تتوزّع بالتساوي وبشكل متكافئ مع عدد الأشخاص المنتمين إلى كلّ طائفة. فمع مجموع عدد الطوائف الثماني عشرة في لبنان (منها ستّ طوائف رئيسيّة)، يصبح تنفيذ حكم الإعدام مستحيلاً بموجب قوانين الرياضيات والاحتمالات.
مرّة جديدة، وكما هي الحال بشأن قضايا جوهرية أخرى، مثل أسباب الحرب الأهلية، وقانون الانتخاب، والجامعة اللبنانية، سيُعفى اللبنانيون من الحوارات والمناظرات المعمّقة حول قانون الإعدام وشرعيته. فطوائف لبنان ستتولّى هذه المهمة. اللبنانيون أمام خيارين: إما تغيير النظام الطائفي أو قوانين الرياضيات.
اترك تعليقا