طليعة الفنانين اللبنانيين-مصطفى فرّوخ

"يمكن القول إن طلائع نهضة لبنان الادبية والفنية بدأت في القرن التاسع عشر، يوم تنبه الفكر فيه فانطلقت تلك النهضة قوية تزخر بروح التجرد والاخلاص هدفها الادب للادب والفن للفن شأن كل وثبة صحيحة قائمة على قوى نفسية كانت مكبوتة فانبعث دفاقة كالينبوع صفاء وحياة.
وأرى من المفيد، قبل الحديث عن افراد هذه العصبة الكريمة، ان اعرفها وأصف اسلوبها واتجاهها. يقول شيخ الفن الحديث (اوغست رودن) في صفة اهل الفن الصحيح في مقدمة كتابه (L’Art) "ان الفن اخلاص وتعلق بالطبيعة، وانتباه وحكمة، وارادة وعمل." هذه هي المزايا الأساسية التي يطلبها الفنّ من محترفيه وبهذه الصفات كان يتحلّى أفراد هذه القافلة. 
واننا نبدأ بذكر احد مؤسسي النهضة العلاّمة عبدالله زاخر (1684-1748)، فقد كان إلى جانب علمه فناناً خلّف بضع لوحات منها صورته. وقد زرت دير مارحنا للرهبان الكاثوليك قرب الشوير، واطلعت على المطبعة التي صنعها بمعاونة الرهبان والأحرف الخشبية والنقوش التي حفرها وطبع بها اول كتاب في لبنان. وكذلك الفنان كنعان ديب ديب من (دلبتا) درس على نفسه واعطى صوراً فيها احساس وتصوف عجيب، والمصور نجيب يوسف شكري من دير القمر 1897 ونجيب فياض وابراهيم سربيه من بيروت 1865 ودمشقيه وسعيد مرعي وعلي جمال. وقد وقف معظم هؤلاء فنهم على تصوير المراكب والمناظر الطبيعية والبحر. فتذكرنا صور سربيه بلوحات فنان البندقية (Canaletto) الذي وقف حياته على تصوير (ترعة البندقية) ومراكبها واشهر صور سربيه اللوحة التي تمثل استقبال الامبراطور غليوم في مرفأ بيروت المزدحم بالسفن. وله صور، اما دمشقيه فاشهر صوره تلك التي تمثل الحادثة البحرية الشهيرة وهي غرق الدارعة البريطانية (فكتوريا) في مياه طرابلس عند زيارة الاسطول لهذه البلاد. وهناك مرعي الذي قام بمحاولة تصوير بعض الاشخاص ولكنه اضطر على اثرها ان يغادر البلاد إلى اميركا.
واخيراً الضابط علي جمال الذي بلغ من ولعه بتصوير البحر وامواجه والمراكب ان سافر إلى القسطنطينية والتحق بالمدرسة البحرية حيث تخرج ضابطاً. هؤلاء حصروا فنهم في تصوير البحر والمراكب دون غيرها، نتيجة لعقلية كانت سائدة يومئذ. من رواد النهضة سليم الحداد من (عيبه) مارس فنه في مصر ونال شهرة وكذلك نجيب بخعازي الذي رحل لروسيا، ولا يمكن الكلام عن لوحاتهما لأن الحظ لم يتح لنا مشاهدتها.
ونتقدم الان إلى الكلام عن الفريق الثاني، وهم الطليعة الذين سافروا إلى اوروبا ودرسوا الفن على كبار الفنانين. الفنان رئيف الشدودي اهتمّ بتصوير الأشخاص وله فيها ما هو جدير بالإعجاب منها صورتان للسيد مسعد وولده وقد توفي في ريعان الشباب هماً وكمداً ولم يترك سوى عدد من الصور.
داوود القرم (1852-1930)
داوود القرم كان اول من شق طريق الفن الناضج بيننا، وقدر له ان يسافر إلى مهد الفنون ايطاليا عام 1865، حيث اطلّع في المتاحف الكثيرة والمعاهد الفنيّة ووقف وقفات طويلة أمام روائع العباقرة هناك أمثال: ميكالانجيلو، رفائيل وفيرونيز. تأثر داود القرم بروح رفائيل ومدرسته فأعطانا فنًا حلوًا يزخر بالعاطفة والرقّة والاحساس، ومن معاصريه شكري المصور الذي تدل لوحاته القليلة الباقية عن تحسن بالغ لاسيما في ترجمة الالوان والاجواء اللبنانية التي تفيض بالاشعاع والنسيم والابعاد.
حبيب سرور (1860-1938)
حبيب سرور درس الفن في روما عام 1870 وتمكّن منه وتفوق على أقرانه هناك لما اظهره من المواهب الفنية وذلك بشهادة بعض كبار الفنانين الغربيين الذين كانوا رفقاءه في الدراسة. وله في مدرسة الموارنة في روما صورة للبطريرك يوحنا مارون تعد من الروائع الفنية في عاصمة الفنون. وجدير بالذكر انني زرته في مرسمه يوماً فوجدته على عهدي به منكباً على تصوير غصن صغير يحمل بعض وريقات ذابلة، فدهشت وقلت: ماذا؟ فالتفت الي مبتسماً، وقد اهتزت نظارتاه من اعلى انفه الحاد، وقال: "ليتني يا مصطفى اتمكن من بلوغ تصوير ما احتواه هذا الغصن اليابس من دقة وجمال قد حيرني واعجزني."
"كل شيء فانٍ، وقيمة الحياة في مثلها ومعنوياتها تلك الحياة المثلى التي يحياها اهل الفن وامثالهم والالم الذي يدغدغ نفوسهم هما العنصر الاهم والابلغ في حياة ارباب الفكر وفي قيمة انتاجهم." ثم عاد إلى لوحته مردداً: "لا يعرف الله من لا يعرف الألما". وعاصر سرور نجيب قيقانو الذي لم يعمل كثيراً في حقل الفن لاعتلال صحته.
خليل الصليبي (1870-1928)
كان الصليبي كزملائه في نبوغه وبراعته غير انه كان في الوانه شاعراً مبدعاً، وموسيقيًا ملحنًا كثير الأناقة لما كانت تتّسم به ألوانه من النضارة والانسجام والتحرّر.  كان ثائرًا، صاخبًا، في نفسه رغبات، كان ناقمًا على مجتمعه، صريحًا في نقده، تلك الصراحة التي جنت عليه وانتهت بقتله وزوجته الأميركية في بيروت صيف 1928. 
جبران خليل جبران (1883-1931)
نذكره هنا وان عرف بأدبه أكثر من ريشته غير أنّه درس التصوير وهو صبيّ على الأستاذ سرور الذي أخبرني ذلك، ثمّ رحل لباريس فأميركا حيث أتمّ دروسه الفنيّة وغيرها. وقد ترك لنا رسومًا رمزية رقيقة صوفية الروح تزخر بروح الشرق وفلسفته، أضفت على أدبه رونقًا وبهاءً. 
مكاروف فاضل
وما كنت أحبّ أن أختم حديثي بفاجعة الشباب، ولكنّ نفسي أبت عليّ أن أطوي الكلام على ذكر هذا الشباب الذي ما كاد يتفتّح عن آمال طيّبة تطلع في سماء الفنّ اللبناني حتّى اختطفه القضاء من بيننا، وهو المرحوم مكاروف فاضل."

اترك تعليقا