اسكندر رياشي-بيوت من زجاج تتراشق بالحجارة
..للسذّج المغرورين المخدوعين، للناس الملاح الذين لا يزالون يعتقدون ان في لبنان زعماء سياسة، يحسبون الاستغلال جريمة والنزاهة فضيلة في بلاد كانت- على مدى الأجيال- تحسب القاتل بطلاً، والمتلاعب نابغة، والذي يمكنه أن يهب ويسلب ولا يفعل "أهبل"!.
..ولا عجب في ذلك، فليس حديث الفساد واقتسام أموال الدولة والاستثمارات المشبوهة والمتاجرات بالنفوذ السياسي والحكومي محصوراً فقط بالعهد الأخير، عهد بشارة الخوري الذي يسميه اليوم- وحتى أكثر الذين استفادوا منه- بالعهد البائد - بل هو حديث قديم جداً، قد يرجع إلى عهد الأمير بشير والتنوخيين.
وما قاله الاديون بعد ذلك في عهد بشارة الخوري كذلك كان الدستوريون يقولونه عن عهد اميل اده.
ولم يفلت واحد من التهمة بالفساد والاستغلال، فالذين هم خارج السراي يحاربون دوماً الذين بالسراي.
والذين داخل السراي يجربون دوماً تسويد صحيفة الذين هم بخارجها.
وكان النواب - على أثر شائعة حلّ مجلسهم قريباً - قد أخذوا يترددون يومياً على المجلس والسراي متسائلين متى النهاية.
ومن حديث لحديث كانوا دوماً يصلون إلى الجدال والتناقش وأخيراً للقتال، فيتهم كل منهم الآخر بالعاطل والفاسد، مما كان يدعو المفوضية لزيادة الازدراء بالمجلس وللتفكير بوجوب سرعة حله، اعتباراً أنه في الأزمة الدولية القائمة، وفي اتخاذ بيروت مركزاً لقيادة جيوش الحلفاء بالشرق من الواجب التخلص من مجلس نيابي فوضوي ضائع، قد يخلق للمفوضية وللعسكريين مشاكل كثيرة.
وذات يوم سمع مؤلف هذا الكتاب المساجلة البشعة التالية بين نواب كانوا في أروقة المجلس، يتجادلون بعضهم مع بعض، ويقولون الأشياء القبيحة التي سجّلناها بالقلم والدفتر.
كان روكز أبو ناضر المتكلم أولاً مهاجماً خليل أبو جودة:
- أنت وقفت على سلم السراي وأخذت تقبض وتساوم على الوظائف والتعيين في البلديات!
فردّ خليل أبو جودة قائلاً:
- وأنت اتفقت مع شركة مياه المنبوخ، وأخذت حصتك من الثمانية ملايين فرنك التي أمرت الحكومة وبعض النواب في إعطائها إياها!
وقال محمد العبود مخاطباً الشيخ فريد الخازن:
- أنت الذي لك حصة في زراعة الحشيش في عكار وبلاد بعلبك وقد اكتشف الفرنسيون أمرك!
وقال للشيخ يوسف الخازن:
- وأنت الذي قبلت المال من البنك السوري عند تجديد اتفاقيته، ولما كان هذا البنك فرنساوياً فلا شك أن مديره أعطى المفوضية قائمة بأسماء جميع النواب الذين قبضوا ثمن سكوت مقابل تصديقهم الاتفاقية مما يجعلنا بنظر الفرنسيين نواباً للسلب والنهب.
وقال يوسف الزين:
- أنت الذي طلبت من شركة البترول مالاً لتسعى لها في التصديق على امتيازها، فذهبت الشركة وقالت للفرنسيين متأسفة: "أود من كل قلبي أن أعطي الخزينة اللبنانية ما تطلبه، ولكنني لا أعرف إذا كنت مضطرة أن أعطي نواب لبنان ما يطلبونه". وبعد هذا أعطت الشركة للمفوضية أسماء النواب الذين كانوا يساومونها على المال، مقابل الموافقة على مشروعها، فقالت المفوضية للشركة: "الأفضل تأجيل البحث بضعة اشهر، إذ حينذاك لا تجد الشركة أمامها نواباً يزاحمون الخزينة..."
ويتابع أهل جهنم عتابهم وشجارهم فيقول الشيخ فريد للخباز:
- وأنت الذي جعلت المجلس مغارة للصوص... أنت علي بابا. وعملت من جريدة الأوريان مكتب توظيف وسمسرات،
ويقول غيره وهو يتخاصم مع روكز بك:
- وأنت الذي ما تركت بلدية في منطقتك إلا ووضعت عليها جزية... وأنت الذي بعت وظائف المخاتير والنياشين بأسعار معينة!
وقال الشيخ فريد لنائب معروف من بيروت:
- وأنت الذي أعطيت الشواطئ لعجرم من دون بدل وأنشأ فيها حماماته المعروفة. في حين أن البحر وشاطئه ملك للحكومة، وليس لأحد غيرها أن يضع يده عليهما!
وقال نائب غيره: "وأنت تحمي البانسيونات والملاهي الفاسقة وألعاب القمار، مقابل رسم تأخذه منها، كما كان يفعل آل كابوني في أميركا"!
.. إنما حينذاك، لم يكن بالإمكان أن يقوم انقلاب بالسيف والقوة والإضرابات. لان الفرنسيين كانوا هنا.
فهم لو لم يكونوا هنا، وكان البلد مستقلاً كما كان بعد 1943، ولو لم يكن المعارضون يومئذ يخافون السنغاليين، لكانوا عملوا تماماً ما عمله بعدهم المعارضون أمس، عندما قاموا بانقلاب على بشارة الخوري، اذ في عهده كان السنغاليون قد ضبوا حرابهم وتركوا هذه البلاد فلم نعد نخافهم ونخشى سواد وجوههم!.
والأسباب نفسها التي كانت تجعل انقلاب 1952 ضرورة وطنية هي ذات الأسباب التي كانت ايضاً في ذلك الزمن تدعو للنقمة والثورة على الدولة، كما ان الوقاحة السياسية لم تكن قد وصلت يومئذ الى ما وصلت إليه في هذا الوقت الذي نحن فيه وهي وقاحة جعلت ايضاً الكثيرين من الذين كانوا العاملين الرئيسيين بالفساد والرشوة والمتاجرات يفخرون على غيرهم وبكل جرأة بتجردهم، ويعدون أنفسهم في هذا العهد الجديد المصلحين والمطهرين، في حين أنهم قليلون جداً السياسيون اللبنانيون الذين يمكنهم ان يفخروا عن حق، وليس عن كذب ورياء، بتجردهم ونظافتهم!
نعم، نريد أن نقول ونؤكد ان الفساد والفوضى والسلب - هذا كله كان من شأن العهد السابق، ولكن ليس جميع الذين قالوا عنه هكذا هم بأجمعهم أيضاً غير حرامية وسارقين، وكثيرون منهم لا يمكن أن تكون ذاكرتهم خانتهم لدرجة ينسون من ورائها اليوم ما فعلوه بالأمس، فإن لم يكن هناك غير الأموال الكثيرة التي يتمتعون بها الآن مع ظواهر التجرد والنزاهة التي يستمتعون بها، فهذا كاف لان يذكروا في كل ساعة انهم هم كانوا ايضاً سلابين نهابين!."
اترك تعليقا