فنّ العمار في لبنان
“سيداتي سادتي،
عندما اتصل بي الأستاذ ميشال اسمر لتداول موضوع محاضرة هذا المساء، أخبرني عن عزمه على تنظيم سلسلة عنوانها “آداب وفنون”، في برنامجه لهذه السنة. فاقترحت عليه وقتئذٍ إدخال هندسة العمار ضمن هذه السلسلة لكون فن العمار عضواً في مجموعة الفنون الجميلة، إن لم يكن الركن الأساسي لها. فكان أن نتج عن ذلك موضوع هذه المحاضرة وهو “فن العمار في لبنان”.
مما لا شكّ فيه أن النهضة العمرانية في لبنان من أقوى مظاهر النشاط الاقتصادي الذي حصل منذ انتهاء الحرب العالمية الأخيرة. وقد أدت هذه النهضة إلى تغيير وجه العاصمة بيروت بسرعة قليلاً ما حصل مثلها في العالم، وبشكل أقل ما يقال فيه إننا لا نحسد عليه كثيراً. ولم تقتصر هذه النهضة على العاصمة فقط بل تعدّتها إلى المدن الرئيسية الأخرى وإلى مناطق الاصطياف وقرى الجبل. إن الأسباب التي أدت إلى ازدهار هذه النهضة تقع خارج نطاق محاضرتي هذا المساء. ولكنني سأحاول هنا أن اصف الظروف والأحوال الهندسية التي رافقت هذه النهضة وصبغتها بشكل الذي نعرفها به وما زالت إلى الآن تؤثر بشكل قوي على ما ستتخذه من قالب في المستقبل. إن هندسة العمار تؤثر تأثيراً مباشراً على حياة كل فرد منا وإن لم يكن مرتبطاً بها مهنياً.
إن الكلام عن هندسة العمار ليس معناه فقط التحدث عن أسلوب فني. فمما لا شك فيه ان العمار جزء لا يتجزأ من الفنون الجميلة كالنحت والتصوير، وهو مرتبط ارتباطاً وثيقاً بها ولكن هذا الارتباط لا ينفي عن العمار صبغته العلمية. فالفن والعلوم متممان لبعضهما، وهما الضمان الوحيد لإيجاد أسس هندسية عمارٍ صحيحة، تلك الأسس التي طالب بها فترو فيوس منذ ألفي سنة وهي: المنفعة والقوة والجمال.
إن أوّل ما يلفت النظر في هندسة العمار المعاصرة في لبنان هو اختلافها في الشكل وتعدّد أساليبها. فهي ضائعة بين تطبيق أعمى لمختلف الأساليب الجديدة من جميع أنحاء العالم حيناً وبين أتباع الهندسة المعمارية اللبنانية التقليدية حيناً آخر. ولم نتوفق حتى الآن إلى إيجاد مدرسة لبنانية معاصرة، لها مقوّمات وإمكانيات المدرسة التقليدية من حيث انتشارها وصلاحية تعبيرها عن متطلباتنا. ففي بعض الأحوال أهملنا ما قدمته لنا مئات السنين من النتائج والاختبار، واتبعنا أساليب بلدان لا يربطنا بها سوى تشابه المناخ وأحياناً لا يربطنا بها أي رابط. فمن جهة نرى البعض يفكر أن وجود الجبال يسمح لنا بالبناء بأساليب سويسرا أو التيرول، ومن جهة أخرى توجد فئة ثانية تفكر أننا ما دمنا نستعمل السيارة وآلة تكييف الهواء فعلينا أن نعيش كما يعيشون في كاليفورنيا.
لقد كان الاسلوب المعماري اللبناني في الماضي واضحاً وصريحاً. فأوجدنا مخططاً للبيت أصبح إتّباعه فريضة. واستعملنا الحجر الصلب للبناء، فأتقناه وأعطيناه روحاً وشخصية. واقتبسنا مما دخل علينا بواسطة تجارتنا وعلاقتنا مع البلدان الغربية من البحر المتوسط، ومزجناه بما ورثناه عن الفن العربي فأوجدنا أسلوباً لبنانياً صحيحاً انتشر استعماله عند جميع الطبقات، وأسسنا تلك المدرسة اللبنانية التي تمتاز برشاقتها وسعتها وحسن ارتباط وتوازن أعضائها بعضهم ببعض.
أما في عصرنا هذا، فقد تغيرت أساليب العمار بحسب تغير طرق البناء، فأصبحت الخرسانة المسلحة الطريقة المنتشرة في إقامة أسس العمار الحديث. لقد حصل ذلك في لبنان ولكنه اعطى نتيجة هي بنظري نكبة على هذا البلد الجمييل. وهنا نضع السؤال: ما هي العوامل التي دفعت الهندسة المعمارية إلى الحالة التي هي عليها الآن وما هي الصفات التي تتصف بها؟
هذه النهضة الفردية التي كانت على استعداد لتقبل التنظيم والارشاد وبرهنت عن بعد نظر في تفهم المطاليب والحاجات، لم تلق من يوجهها التوجيه الصحيح. لقد كان ينقصها التصميم الشامل والمراقبة الدقيقة، وفوق ذلك كله كان ينقصها التفكير الواسع الذي يضم مخططاً توجيهياً عاماً يحفظ للعاصمة بيروت جمالها ومركزها الطبيعي ويوجه انتشارها توجيهاً مركزاً فنياً دقيقاً تتبعه الاجيال في المستقبل.
ليس عندي اي شك في ان بيروت، تلك البقعة الجميلة المشرفة على البحر المتوسط التي كنا نعرفها جميعاً منذ عشر سنوات فقط، قد انقرضت ملامحها وتغير وجهها واصبحت ببناياتها المتلاصقة وأزقتها القذرة مثالاً لتلك الاحياء التي انشئت في أوروبا وأميركا بعد الثورة الصناعية في القرن الماضي. إن ما حصل لمنطقة رأس بيروت هو أكبر جريمة هندسية معمارية ارتكبت في لبنان، واستهتار للمبادئ البديهية لتصميم المدن الحديثة. وقد ساعدت عوامل عديدة على خلق تلك النكبة المعمارية في لبنان وسأسرد الاهم منها.
أولاً - قانون البناء: إن واضعي هذا القانون لم يفكروا مرة واحدة ان بامكانية هذا البلد الصغير ان يتسع ولم يضعوا له الاسس الصحيحة للتوسع والازدهار المنظم. فلم يفرق هذا القانون بين المنطقة التجارية ومنطقة السكن، وجعل شروط العمار واحدة ضمن إطار بلدية بيروت. ثانياً - المخطط التوجيهي: لقد اتمت عدة دراسات لإنشاء شبكة من الشوارع بمداخل العاصمة لتسهيل حركة القدوم إليها والخروج منها. لقد أتمّت البلدية قسماً من هذه المشاريع وأهملت قسماً كبيراً آخر فأدّى ذلك التأخير في تحسين مداخل العاصمة. ثالثاً - النقص في التنظيم البلدي وغياب النقل المشترك والخدمات العامة كلها عوامل زادة في الطين بلّة وفي الخراب خرابًا.
كلمة أخيرة أوجهها إلى كل من يهمه الحفاظ على وجه لبنان الحقيقي. إنّ في البيت اللبناني التقليدي جمالاً ورونقًا ندر ما وجد مثلهما. ولكن، ويا للأسف، لقد تطورت الحركة العمرانية التجارية بشكل أخذ يجرف معه ارثنا الهندسي. وسيأتي يوم يفقد فيه لبنان ما يملكه من هذا التراث.”
اترك تعليقا