البترون رأس الشقعة والمسيلحة في التاريخ والأرخيولوجيا - حسان سلامة سركيس
هدف دراسته الأول كان سدّ ثغرات تاريخ لبنان بالمعنى العلمي للكلمة، أي من خلال دراسات رصينة لإشارات متعلقة بأشخاص أو أحداث أو فترات تاريخية معينة. من هنا وضعت هيكلية إجمالية لتاريخ بلدة «البترون» وجوارها المباشر، لإبراز الدور الذي يمكن أن تكون قد لعبته عبر الحقب المتعاقبة.
في البحث عن تاريخ البترون، أي مرحلة التقصيات الأولية، تشير الأدوات الصوانية التي عثر عليها في جوار البلدة إلى عبور الإنسان القديم والإقامة الموسمية في تلك المنطقة منذ ما يقارب ثمانماية ألف سنة، كما تم العثور على أدوات تعود إلى العصر الحجر القديم الأوسط، غير أن تلك الأدوات فقدت أثناء الحرب اللبنانية، كما تم جرف البقعة المشرفة على نهر الجوز قرب قلعة المسيلحة...
في غضون الألف الثانية قبل الميلاد، تشير أقدم النصوص باللغة الأكادية (لغة العلاقات الدبلوماسية في الشرق الأدنى القديم) إلى أن الأموريين كانوا يسعون إلى إقامة دويلة موالية لهم على حساب الدويلات الموالية لمصر- السلطة الفرعونية وذلك إنطلاقا من مناطق نفوذهم الواقعة في ما يعرف اليوم بسهل عكار إلى الشمال والنهر الكبير إلى الجنوب، وهكذا ورد ذكر البترون مالا يقل عن عشر مرات في تلك النصوص «BAT-RU-NA» إلى جانب أسماء مدن أخرى ضمن نطاق مملكة أمورّو بعد أن كانت خاضعة للنفوذ المصري؛ وتشير الوقائع إلى أن الإستقرار السكاني في البترون بالذات لم يحصل إلا ابتداءاً من الألف الثانية ق.م. حيث أن نصوص رسائل «تل العمارنة» ال 54 التي عثر عليها في مصر الوسطى والتي أخبر فيها قائمقام جبيل «رب عديّ»، الفرعون المصري عن الحالة السائدة في المناطق بسبب هجمات الأموريين وحاجته الملحّة للدعم، ذُكرت خلالها البترون في نطاق دويلة جبيل في تلك الأيام وفي 9 رسائل.
في العصور الكلاسيكية اليونانية والرومانية، أعطيت البترون إسما يونانيا «Botrys» أي عنقود العنب وورد ذكرها عندما وصف الجغرافي الروماني «بومبونيوس ميلا» الساحل الفينيقي، ويبدو جليا أن البترون لم تحظ بإهتمام خاص إلا في أيام الأسرة الساويرية، إذ أقيم فيها في تلك الفترة بعض البنى المهمة كمعبد تيخة الإلاهة حامية المدينة بالإضافة لمعابد ومدافن أخرى.
في العهد البيزنطي، وضع النحوي هياروكليس دليلا ضم لوائح ولايات الإمبراطورية الأربع والستين، وعند تطرقه إلى ولاية فينيقيا الأولى أو الساحلية أتى على ذكر البترون التي ميزها عن فينيقيا اللبنانية أو الداخلية.
بعد الزلزال العنيف التي شهدته المنطقة في أواسط القرن السادس، كانت البترون من جملة المدن التي دمرت كليا والتي لم تلق المساعدات السريعة باعتبار أن الاولوية في الأعمال كانت محصورة بالمدن الرئيسية والبرهان على ذلك هي الرحلة إلى الأراضي المقدسة التي قام بها أحد الحجاج المجهولين بين سنتي 560 و570 أي بعد الزلزال بحوالي عشرين عام. وفي سياق عرضه حالة المدن الساحلية التي مرّ بها، أتى على ذكر طرابلس وإنتقل منها إلى جبيل من دون أن يمر بالبترون او يشير إليها. و يبدو أن البترون بقيت على هذه الحال من الخراب إلى ما بعد الفتح الإسلامي بزمن طويل.
كانت البترون جزءاً من إمارة بني عمار الذين حكموا طرابلس في ظل الدولة الفاطمية في النصف الثاني من القرن الميلادي الحادي عشر ولم تكن ذات شأن حتى أوائل القرن الثاني عشر، عند سقوطها في يد الفرنجة، حيث أضحت جزءاً من قومسية طرابلس. في ذلك الوقت كانت البترون تنتج أجود أنواع الخمور في المنطقة وأُنشى إلى الشمال من المدينة مرفأ صغير لإستقبال القوارب التي كانت تشكل وسائل نقل سريعة للرسل والمخبرين بين البترون وجوارها، أما المراكب الكبيرة والأساطيل كانت تتجه إلى الخليج الواقع إلى الشمال.
بعد سقوط الفرنجة في حطّين عام 1187 على يد السلطان صلاح الدين، خضعت البترون لسيطرة بني عساف ثم بني سيفا حتى سنة 1618 عندما ولّى الأمير فخر الدين أبا نادر الخازن على بلاد الجبيل والبترون. أما الموارنة فكان لهم مقدّم يعينه الباب العالي.
يستهل حسان سلامة سركيس القسمين الأخيرين من كتابه للعودة إلى رأس الشقعة وقلعة المسيلحة ويكون بالتالي قد تناول البترون وجوارها في التاريخ والأرخيولوجيا.
يستهل حسان سلامة سركيس القسمين الأخيرين من كتابه للعودة إلى قلعة المسيلحة ورأس الشقعة فيصف هذه الأخيرة بالشناخ الواقع بين البترون وطرابلس والذي تمّ ذكره مرارا في معظم المصادر القديمة بأسماء مختلفة كوجه الصالح «Euprosopon» ووجه الله «Theouprosopon» ووجه الحجر «Lithoprosopon» وشكّل نقطة إستدلال مهمة للبحّارة القادمين من البحر من خلال بروزه كبقعة دكناء على خلفية جبل المكمل؛ أما قلعة المسيلحة فقد شيّدت على صخر بارز في وسط وادي نهر الجوز وأقيم عليها برج لمراقبة الطريق الذي يصل الساحل البتروني بساحل الهري وعلى الرغم من أهمية الموقع من الناحية الاستراتيجية، ساد اختلاف بين الباحثين حول تاريخ بنائه.
اترك تعليقا