بيروت طريقٌ تجاريٌّ تاريخيّ يصل الشرق بالغرب؟
الحقيقة: لكنّ الواقع يفيد أن المكانة التي اكتسبتها بيروت ليست إرثاً تاريخياً، بل تعزى في الواقع إلى معالم محدّدة في الماضي الإداري للمدينة. فقد كانت معظم المدن الممتدة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسّط تعمل كمرافىء تجارية عبر التاريخ ولم تتفوّق عليها بيروت إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشرنتيجة التغيرات في الطرق التجارية والسياسات الإدارية للسلطنة العثمانية.
خلال القرن التاسع عشر، تنامت أهمية سوريا في الاقتصاد الأوروبي وبدأت الحركة التجارية تنشط على الساحل. أدركت السلطنة العثمانية حينها دور وثقل التجارة العالمية فعمدت إلى فرض حجر صحي على شواطئها. وكانت بيروت (تحت الحكم المصري حينها) الخيار الأمثل كمحطّة حجر صحي للمسافرين عبر البحر. هكذا، وبدءاً من العام 1835، باتت كافة السفن المتوجهة إلى أي نقطة في سوريا مجبرة على التوقّف في بيروت، فمع سرعة انتشار الأمراض بين البلدان الفاعلة تجارياً، أصبح الحجر الصحي صفةً ملازمةً لمبدأ التجارة وشكّل محرّكاً أساسياً لاستمرار حركة التجارة. أما البضائع المستوردة فكان يتم نقلها لاحقاً إلى مدن تطلّ على الساحل أو إلى تلك الواقعة بعيداً عنه في عمق سوريا.
قبل هذه التطورات في أوائل القرن التاسع عشر، كانت بعض المدن كعكا وصور وصيدا واسكندرون تملك مرافىء جدّ ناشطة، لكنّ افتقارها للحجر الصحي وضع بيروت في المقدّمة وضاعف قدرتها التجارية. أدّى التغيير الذي طال أنماط التجارة في العالم وإدخال نظام الحجر الصحي إلى جعل بيروت همزةً للوصل بين أوروبا ومدن السلطنة العثمانية.
إن الكرانتينا، ذلك الحيّ الصناعي الواقع شمالي مرفأ بيروت والذي يعدّ خير شاهد على وحشية الحرب الأهلية، كان في الماضي المنطقة التي ساهمت في رفع بيروت إلى مكانتها اليوم كنقطة وصل بين جهتي العالم. إن الفضل في السمعة التي اكتسبتها بيروت لا يعود لموقعها الحساس ولا لثقافة التجارة البحرية لديها بل لمجرّد تواجدها في المكان المناسب في الوقت المناسب.
اترك تعليقا