شهر كانون الثاني - إنقلاب الحزب القومي
إنقلاب الحزب القوميخلفية تاريخية
في 4 تموز 1949 قام الحزب السوري القومي الاجتماعي بعصيان مسلح ضد حكم الرئيس بشارة الخوري وتدخل الجيش وفرض الأمن، وفر زعيم الحزب انطون سعادة إلى دمشق في حماية قائد الانقلاب العسكري حسني الزعيم الذي عقد صفقة سرية مع الرئيس الخوري قضت بتسليم سعاده إلى السلطات اللبنانية التي أحالته إلى محاكمة سرية استغرقت ساعات عدة انتهت بإعدامه بعد 24 ساعة وكان هذا السبب الأساسي لقيام عناصر من الحزب المذكور باغتيال رئيس الحكومة السابق رياض الصلح في عمان يوم 16 تموز 1951 (كان رئيساً للحكومة ويحمله القوميون المسؤولية الكبرى في إعدام سعادة). وفي ثورة 1958 وقف الحزب السوري القومي الاجتماعي إلى جانب رئيس الجمهورية حينها كميل شمعون ومعهما حزب الكتائب في مواجهة المقاومة الشعبية المدعومة من الرئيس المصري جمال عبد الناصر ما أسس للتباعد بين الرئيس فؤاد شهاب (كان قائداً للجيش وتولى رئاسة الجمهورية إثر هذه “الثورة”) والحزب السوري القومي، وقد تقرب الرئيس شهاب من حزب الكتائب لاحقاً على حساب الحزب القومي ما زاد من حدة التباعد بين الطرفين، ويتهم الحزب المكتب الثاني (مخابرات الجيش الموالية لشهاب). بالعمل على إسقاط مرشحي الحزب القومي سواء في الانتخاب الفرعي عام 1959 في دائرة بعقلين- جون حين سقط إنعام رعد مرشح الحزب، أو في انتخابات العام 1960 عندما سقط رئيس الحزب عبد الله سعادة في الكورة وأسعد الأشقر في المتن وأنعام رعد في الشوف. ومع الأيام ترسخت حالة العداء ووجد الحزب نفسه على هامش الحياة السياسية وأبواب الإدارة موصدة في وجهه بينما خصمه حزب الكتائب ينتشر ويتوسع مستفيداً من دعم الرئيس شهاب، ومن الأمور الخلافية أيضا عقيدة الحزب التي لا تعترف بالكيان اللبناني الذي هو جزء من سورية وفلسطين والعراق والأردن التي تشكل سورية الكبرى أو ما يعرف “بالهلال الخصيب”. وهناك من يورد أسباباً أخرى تتعلق بارتباطات خارجية وتدخلات إقليمية زادت من حالة العداء بين الحزب القومي والرئيس شهاب.
التحضير للانقلاب
ما أن انهارت جمهورية الوحدة في 28 أيلول 1961 (الوحدة السورية- المصرية)، حتى وجد الحزب السوري القومي الاجتماعي السانحة التاريخية للانقضاض على حكم فؤاد شهاب، المحاصر بين نظامين أضحيا مناوئين له هما سوريا والأردن الذي كان بدوره خصماً للناصرية. ولم يعد جمال عبد الناصر كما كان لسنوات خلت، على حدود لبنان كي يتمكن من التدخل بسهولة رغم تعاظم دور استخبارات السفارة المصرية. شعر الحزب أيضا بأن الأوان قد حان لتقويض ذلك التحالف (الناصري- الشهابي). بعد سلسلة اجتماعات سرية عقدها مع ضابطين قوميين هما آمر سرية في الفوج الأول للقناصة في ثكنة مرجعيون النقيب شوقي خير الله وقائد الكتيبة المصفحة المستقلة الثانية في ثكنة صور النقيب فؤاد عوض، عزم عبد الله سعادة (رئيس الحزب) على قيادة انقلاب عسكري على حكم فؤاد شهاب. وكان الضابطان أسرا إليه ما اعتبراه تذمر ضباط كثيرين في الجيش على السياسة التي يتبعها رئيس الجمهورية ما يتيح اضطلاع الجيش بدور مهم وحاسم في الانقلاب العسكري، وتسهيل إنجاحه باستخدام جنود وآليات. حدثه الضابطان، القوميان منذ ما قبل انتسابهما إلى المدرسة الحربية، عن نقمة هؤلاء وإمكان التعويل سراً على سياسيين ناقمين بدورهم، يوفرون لاحقاً غطاء سياسياً لانقلاب ما أن ينجح حتى يكثر اباؤه. بعد سلسلة اجتماعات كان أولها في تشرين الأول 1961، نقل رئيس الحزب الفكرة إلى مجلس العمد، ثم إلى المجلس الأعلى، وحاز موافقتهما بالأكثرية بعد تحفظ أعضاء آخرين عن مغامرة خطرة كهذه، وخصوصاً إذا فشلت. في حصيلة مناقشات سرية ارتسمت معالم خطة الانقلاب العسكري: اعتقال رئيس الجمهورية في منزله، ورئيس مجلس النواب، ورئيس الحكومة، والضباط الكبار الوثيقي الصلة بالرئيس.
تقرر مباشرة تنفيذ الانقلاب منتصف ليل 30 كانون الأول 1961. في تلك الليلة عشية رأس السنة الجديدة، يكون الضباط والجنود في إجازة والاستنفار العسكري في استرخاء. بيد أن المجازفة كمنت في أنّ الحزب اكتفى بالاعتماد على قوة صغيرة من الجيش تمثلت في كتيبة المصفحات التي ستستقدم من صور لاحتلال وزارة الدفاع الوطني.
وكان النقيب شوقي خيرالله قد أوقف غداة إحياء ذكرى الاستقلال في 22 تشرين الثاني 1961، وعوقب 60 يوماً سجناً في غرفة في أحد بيوت الضباط المجاورة لثكنة الفياضية لأسباب تأديبية، حالت دون مشاركة سريته في ثكنة مرجعيون في الانقلاب العسكري، قبل أن يصار إلى إطلاقه من مقر توقيفه بعد انطلاق الانقلاب بيد أنه وصل إلى وزارة الدفاع الوطني متأخراً، وقد فشلت المحاولة.
كان ثمة جانب آخر من الخطة هو الأكثر إلحاحا ودقة والتصاقاً بالنجاح، يقضي بتوجه قوة من المسلحين القوميين يقودهم ضابط قومي هو علي الحاج حسن إلى جونيه لاعتقال رئيس الجمهورية في منزله. انتقلت سرية المصفحات بقيادة النقيب فؤاد عوض، بعيد منتصف الليل، من ثكنتها إلى وزارة الدفاع الوطني، فوصلت إليها بعد الثانية فجراً وحاصرت ضباطاً كباراً فيها بينهم انطون سعد (رئيس الشعبة الثانية - أي المخابرات) واحمد الحاج وفوزي الخطيب واسكندر غانم وجان نخول وسامي طبارة وأنيس أبو زكي. كان هؤلاء يسهرون في بيت انطون سعد عندما بلغتهم أنباء عن انتشار قوميين في عدد من المناطق من خلال مخبرين، في إشارة إلى توقع قيامهم بعصيان مسلح كانت رجحت حدوثه تقارير عدة بلغت إلى الشعبة الثانية لأيام خلت من مخبريها. قصدوا مبنى الوزارة في الأولى فجراً لتتبع الوقائع، من غير أن تخطر في ذهنهم محاولة انقلاب. عندما وصلوا إلى مكاتبهم، كانت سرية فؤاد عوض في طريقها إليها، مارة بالقرب من ثلاث ثكن عسكرية كبيرة هي الفوج الأول للمضاد للطائرات في ثكنة فؤاد شهاب، وفوج المدرعات في ثكنة الأمير فخر الدين، وفوج المدفعية في ثكنة الأمير بشير. لم تصدف القافلة حاجزاً للجيش أو الدرك، ولا أثارت انتباه مخبري الشعبة الثانية. بيد أن محاولة الانقلاب أخفقت لسببين مباشرين متلازمين: فشلها في احتلال وزارة الدفاع الوطني وفي اعتقال رئيس الجمهورية.
اكتفى فؤاد عوض بمحاصرة مبنى الوزارة من دون دخوله واعتقال الضباط الكبار الذين كانوا نجحوا، عبر خط هاتفي داخلي كان الوحيد الذي لم تقطعه أعمال تخريب يربط مكتب نائب رئيس الأركان اسكندر غانم بفوج النقل في ثكنة يوسف طرابلسي، أتاح ربط الضباط المطوقين بالخارج، وتالياً استنفار قوى الجيش وإنذار رئيس الجمهورية. في ذلك الحين كانت الفرقة القومية بقيادة الملازم علي الحاج حسن، المكلفة اعتقال رئيس الجمهورية، تأخرت في الوصول إلى بيته من جراء أخطاء سوء التنسيق بين قواها وتعذر استدراك الإجراءات البديلة وإهدار الوقت الثمين، قبل افتضاح أمرها وملاحقة رجالها في التلال المجاورة. تحركت وحدات الجيش من ثكنها المحيطة ببيروت وقصدت وزارة الدفاع الوطني وأطبقت على جنود فؤاد عوض ومسلحيه القوميين. ترافق ذلك مع تحليق سلاح الجو فوق الجبل وجونيه على علو مخفوض، وعودة الاتصالات بين الثكن والوحدات العسكرية في المناطق اللبنانية. بعيد السادسة صباحاً كان الحصار قد فك عن الوزارة والضباط الكبار المحتجزين داخلها، وانتشر الجيش في كل مكان.
مساء 31 كانون الأول استتب الأمن للجيش كلياً بعد مقتل ستة عسكريين. اعتقل بعض قادة الانقلاب والضباط الثلاثة الضالعون فيه، شوقي خيرالله وفؤاد عوض وعلي الحاج حسن، بينما نجح مسؤولون حزبيون آخرون في الفرار إلى سوريا، ومنها إلى الأردن.
حُل الحزب السوري القومي الاجتماعي بعد زج أكثر من عشرة آلاف من أعضائه في سجون معظمها ثكن عسكرية، إلى تجميعهم في الملعب الكبير في المدينة الرياضة ثم في غرفها.
تعرضوا في أثناء التحقيق معهم لتجاوزات ومخالفات للقانون إلى أن نقلوا بعد سنتين، في 22 تشرين الثاني 1963، إلى سجون مدنية كحبس الرمل في بيروت وآخر في طرابلس، بعدما أطلق ألوف أبرياء. أوقف الجيش أيضاً العسكريين الـ 140 الذين شاركوا في محاولة الانقلاب، وسيقوا إلى ثكنة هنري شهاب للتحقيق معهم، قبل أن يصار إلى إطلاق معظمهم في الشهر التالي بعد التأكد من عدم تورطهم، واقتيادهم من دون معرفتهم إلى ما كان خطط له فؤاد عوض ما خلا 26 عسكرياً انضموا إليه عند محاصرته وزارة الدفاع الوطني.
لم تكن الشعبة الثانية تتردد في التدخل لدى القضاء والتأثير على مسار التحقيق، بعدما أدرجت محاولة الانقلاب في سياق تهديد النظام والسعي الى تقويضه بالعنف، ومحاولة قتل رئيس الجمهورية. طاردت كذلك أنصار الحزب ومؤيديه، وأقفلت مكاتبه في كل المناطق اللبنانية، وحظّرت اجتماعاته وقيدت نشاطاته. فتشت بيوت القوميين ومكاتبهم ومقار أعمالهم واستجوبت عائلاتهم التي أخضعت للمراقبة.
استمرت محاكمة قيادة الحزب السوري القومي الاجتماعي شهوراً طويلة، إلى أن أصدرت محكمة التمييز العسكرية في 15 تشرين الثاني 1963 أحكاماً مبرمة بالأكثرية على أثر تحفظ رئيس المحكمة القاضي آميل أبو خير عن وصف محاولة الانقلاب بالجريمة العادية، متشبثاً بوجهة نظر رفضها القضاة العسكريون، وسلم بها رئيس الجمهورية، هي أن الجريمة سياسية بغية إسقاط أحكام الإعدام التي طاولت الضباط الثلاثة فؤاد عوض وشوقي خير الله وعلي الحاج حسن، وقياديين بارزين في الحزب هم رئيسه عبد الله سعادة ومحمد بعلبكي وبشير عبيد ومحسن وجبران الأطرش، إلى أحكام تراوحت بين الأشغال الشاقة المؤبدة والسجن لسنة واحدة لمتهمين قوميين آخرين.
وهناك روايات غير مؤكدة تفيد أن أموالاً ومساعدات تلقاها الحزب من الأردن أو من جهات موالية لبريطانيا التي كانت تعارض الرئيس المصري جمال عبد الناصر شجعته على القيام بهذا الانقلاب الذي يعتبر موجهاً ضد الرئيس المصري بقدر ما كان يهدف إلى إقصاء الرئيس شهاب وهذا هو الجانب الذي لا يزال مجهولاً وبحاجة إلى المزيد من الكشف عن أسراره.
ملاحظة: العديد من المعلومات الواردة في هذه المقالة نقلناها من كتاب “جمهورية فؤاد شهاب” لنقولا ناصيف الصادر عن دار النهار في تشرين الثاني 2008.
اترك تعليقا