آخر الأخبار

حنّا سعادة - ثلاث حكايات عربية سمعتها في صغري

ثلاث حكايات عربية

سمعتها في صغري

إن الأطفال يحبون القصص ويسألون بفضول بريء الأسئلة التي نادراً ما يجيب عنها كبار السن. كتلميذ مدرسة، كان عقلي يعج بخلية أسئلة التي عندما طرحتها تلقيت توبيخاً سخيفاً. في خلال أوائل خمسينيات القرن العشرين، كان المدرسون وأولياء الأمور أقل تفهماً لفضول الأطفال المتواصل.

قالت عمتي منفعلةً:"كف عن طرح الأسئلة التي لا معنى لها."

وتنهدت والدتي قائلةً:"لا وقت لدي للهراء، اسألني سؤالاً ذكياً، سؤالاً أستطيع الإجابة عليه."

أما أساتذتي، فنصحوني قائلين:"اهتم بواجباتك المدرسية، وكف عن السرح في خيالك في جميع أرجاء الفصل."

جرت أحداث حكاياتي العربية الثلاث قبل العام 1954، أي قبل أن أبلغ الثامنة من عمري وقبل أن أعلم أنني سأشعر بالخوف من الرفقة الناضجة. وخلال تلك السنوات التي تكونت فيها شخصيتي، كان والدي يعمل في المملكة العربية السعودية ويزورنا مرة واحدة في السنة محملاً بقصص بدوية ونوادر استمعت إليها بذهول وفرح وأنا جالس بين الكبار. خلال فترة شبابي تلك، كنت أعتبر أن الأشخاص الكبار الذين كانوا يستمعون لقصص والدي هم شخصيات مهمة-شخصيات مهمة تضحك بصوت عالٍ وتدخّن السجائر وتمضي وقتاً طويلاً بعد تناول الطعام في احتساء القهوة وترفه عن نفسها بالأحاديث المعقدة بدلاً من الألعاب الملونة.

من بين الأحاديث التي سمعتها عندما كنت صغيراً، كانت أحاديث والدي لا تنسى إذ كان روائياً موهوباً. كان قادراً على تحويل حادثة بسيطة إلى نادرة، ملاحظة سفيهة إلى رسالة هامة، مصادفة إلى فأل خير، وحدث غير مرغوب فيه إلى تدخل إلهي يتفادى الشر. إنني متأكد من أنه كان يجمّل الحقيقة كما يفعل غيره من الروائيين، إذ إن الهدف من سرد القصص هو الترفيه وليس تقديم الحقيقة الجافة. فكما قال دوستويفسكي (Dostoyevsky) ذات مرة: "علينا تجميل الحقيقة لتصبح قابلة للتصديق."

في هذه المرحلة من حياتي، كنت أفهم نصف ما يقوله وأترك النصف الباقي يهيم بلا وجهة في ذاكرتي القوية. بفضول مستمر، وعلى الرغم من السخرية والتوبيخ الذي تعرضت له، واصلت بلا خجل مراقبة تلك الأحاديث الناضجة والمبهمة. لقد تحدتني فكرة كشف فحوى أحاديث الكبار. فاحتفظت بمقتطفات من تلك الأحاديث غير المفهومة في زوايا ذهني المظلمة محتجزاً إياها كرهائن حتى ذلك الوقت، عندما أستطيع كشخص بالغ فك رموز بقاياها الغامضة. وبفضل ذكريات الطفولة هذه، تمكنت اليوم، بعد مرور اثنين وستين عاماً، من إعادة تأليف هذه الحكايات. 

*

عندما روى والدي قصة الشاعر العربي الذي كان يراقب قافلة ما من أعلى فرسه ومررت به أميرة محجبة تمتطي جملاً فغازلها ببيت شعري ارتجالي قائلاً:

"من نور عينيكِ سأشعل ناري"

عندما سمع جميع الأشخاص الكبار الموجودين في الغرفة هذا الشعر، بدأوا يتمتمون بفرح. أما أنا فكنت غير قادر على كبح فضولي، لذا سألت بصوت غليظ:" إذاً، هل فعلاً أشعل ناره من نور عينيها؟"

بدلاً من تلقي الإجابة، سمعت قهقهة في أرجاء الغرفة، ما زاد من استياء ذهني وترك فضولي غير مرتوي. ومع استمرار والدي في سرد قصته، استمر عدم فهمي المتزايد بتغذية فضولي.

أوضح والدي أنه، في تلك الأيام، كان يمكن أن تتسبب مغازلة ذلك الشاعر المتطفل للأميرة بقطع رأسه. غير أن الأميرة أوقفت القافلة بتلويحة سريعة بيدها عندما لاحظت أن السيوف المنحنية تلمع خارج أغماد حراسها.

وأمرت حاشيتها بصوت بارد وثاقب: "ردوا السيوف إلى الأغماد"، ثم التفتت نحوهم وقالت:

"إن الشعراء عندما يأتيهم الإلهام، يتحولون إلى أشخاص متطفلين. لذلك، كرههم نبينا."

وعلى الرغم من استياء حراسها الغاضبين، التفتت نحو الشاعر مردفةً:  "لا يمكنك أن ترى عيناي من خلال هذا الحجاب القاتم. أي شياطين سحرت تباهيك الفظ؟"

لم يزعجه حراس الأميرة الغاضبين، بل استشاط إعجاباً بشعرها الإرتجالي وأجابها على نفس الوزن: إن الخيال يرى أعمق من العيون، ولا يمكن لشيء واحد أن يوقف رحلات العقل.

عند سماع ذلك، أمرت الأميرة كامل حاشيتها أن تستدير ثم واجهت الشاعر ورفعت حجابها لفترة وجيزة واستثارته قائلةً:

"انظر إلى وجهي المكشوف ومتّع نظرك، ثم أشعل الليل بقصيدة."

أخذت الغرفة ترن بالشعر بينما كانت تردَّد المقطوعات الشعرية كلازمة وتأسر الجميع باستثنائي. جلست أتساءل عما يعنيه هذا الشعر وعما حدث في النهاية، لكنني لم أدرك شيئاً. على مر السنين، حلمت بنهايات عدة لتلك القصة لكن لم تشف أيّ منها فضولي الجريح. فالقصة التي لا نهاية لها تشبه الجرح الذي لا يشفى.  

*

عندما روى والدي قصة أول ملك تربع على عرش المملكة العربية السعودية، اختنقت الغرفة بالصمت الذهبي وجفت العيون التي لا ترف وتحولت السجائر إلى رماد وحامت في الجو سحابة من التعجب تشبه الهالة:

استهل والدي حديثه قائلاً إنه عندما تلقى الملك عبد العزيز دعوة من الملكة إليزابيث الصغيرة إلى مأدبة ملكية في قصر باكنغهام، ترقب العالم هذا الحدث باهتمام شديد. كانت المائدة المنظمة وفقاً للآداب الملكية الصارمة تضيء كمجرة درب التبانة في ليلة صحراوية مظلمة. تم ترتيب المقاعد بحسب الرتب وجلس الملك على إحدى رؤوس الطاولة الطويلة مقابلاً للملكة. كما تم استثناء المشروبات الكحولية التي تعد من العتاد التقليدي للمآدب الملكية احتراماً لعقيدة الملك الإسلامية.

انسجم الملك البدوي الذي تم تدريبه بشكل محترف على شكليات الآداب الملكية مع النعمة الملكية حيث بدأ بتناول قضمات صغيرة وبطيئة محسوبة واكتسب إعجاب جميع الوجوه الشقراء الناعمة المتأملة فيه. وعندما تم إزالة الطعام وجلب عناقيد العنب، تم وضع القليل من الأوعية الذهبية المملوءة بالماء البارد أمام الملك والملكة وبقية المدعوين لغمس العنب قبل تذوقه.

إن الملك المولود في الصحراء والمنشأ في مكان لا يوجد فيه وفرة من الماء لم يتم تدريبه، بسبب بعض الهفوات المؤسفة، على الفروق الدقيقة الخاصة باستخدام الوعاء الذهبي. وقد اعتبر الوعاء المتلألىء الذي يحوي مياهاً باردة ونقية على أنه هدية من الله. وبينما كان بقية الأشخاص على الطاولة بمن فيهم الملكة ينظرون إلى الملك بطريقة تبجيلية منتظرين أول حركة له، رفع الوعاء الذهبي إلى فمه وأفرغ بفرح محتواه الشفاف في فمه الجاف. تجمدت الطاولة بمن فيها. فقد كافح المدعوون لإعادة تشكيل ملامح وجوههم بعد أن لعق الملك شفتيه لا مبالياً. وسرعان ما اجتذبت الملكة بابتسامتها الشاحبة وسعالها المصطنع انتباه الجميع. بعد ذلك، وبفضل النعمة الملكية والمقام الملكي، رفعت الملكة وعائها الخاص إلى ثغرها المبتسم وتناولت ببطء كامل محتواه.

أخذت الثواني تقرع مثل الطبول والعيون تدور في محاجرها وحبس الجميع أنفاسه. عند ذلك، وضعت الملكة برفق وعائها الفارغ على الطاولة، وبإمالة ضمنية لرأسها المتوّج، أرشدت المدعوين الذين رفعوا أوعيتهم واحتسوها حتى آخر قطرة.

ما إن سمع الحضور هذه القصة حتى عمت الهتافات التعجبية أرجاء الغرفة متبوعةً بموجات من الضحك وكأن قطيع من الطيور بدأ بالطيران بغتةً. بعد توقف الصخب وتدّخل الصمت المدهش، أومأت المجموعة بعيونها الممتعة إلى والدي ليتلو ملاحظة واحدة أخيرة موجزة. مستغلاً لحظة الهدوء تلك، سألته: "هل الأوعية الذهبية تجعل طعم الماء أفضل؟"

أضاءت الابتسامات الخافتة الغرفة الممتلئة بالدخان، لكنني لم أحصل على أي تعليق أو تفسير قد يسد ثغراتي.

*

سيستغرق الأمر وقتاً ومكاناً آخر لسرد حادثة المشمش. فقد عاد والدي إلى مشفاه في جدة ليمضي عاماً آخر هناك. وعندما رجع إلى المنزل في الخريف، كنت متلهفاً كما عدداً كبيراً من أصدقائه لقضاء ما يكفي من الوقت في الاستماع إلى رواياته. إن مرور عام واحد كان كفيلاً بجعلي أكثر ثقة في نفسي، لا بل أكثر فضولاً. مرةً أخرى، حدث ذلك في أحد أيام أكتوبر خلال جلسة مطولة من احتساء القهوة وتدخين السجائر.

بعد ترجلي من الحافلة المدرسية عند رأس شارعنا المسدود، مشيت إلى المنزل وقرعت جرس الباب. كانت غرفة المعيشة مليئة بالضباب حيث كان أشخاص راشدون يدخنون السجائر ويصغون بعناية إلى خطاب والدي حول الانتخابات القادمة،إذ كان جراحاً ورجل سياسة في آن معاً. أجلسني على ركبته وتابع عرضه الذي لم أفهم منه شيئاً. ومجدداً، رن جرس الباب ودخل رجل طويل القامة من عكار-وهي منطقة جبلية خصبة تشتهر بثمارها- حاملاً بيده هدية من المشمش المجفف. ردّد والدي عبارة " السيد بيطار" مرات عدة ثم نهض من مكانه وعانق الرجل بشدة. بعد ذلك، التفت إلى الضيوف قائلاً: "إن هذا الرجل اللطيف قد أرسل لي حقيبة من المشمش الطازج إلى جدة. وقد أوصلها إليّ ابنه الذي يعمل في المشفى لدينا في منتصف أغسطس."

*

بعد المصافحات المعتادة التي هيمنت على الغرفة، وبعد جلوس الرجل وتقديم فنجان صغير من القهوة العربية وسيجارة له، عاد والدي وأجلسني على ركبته واستهل قصة المشمش بهذه المقدمة:

     أنا أحب البدو وكذلك أحب حكمتهم الصحراوية. لقد تحملوا على مدى آلاف السنين ظروف الصحراء العربية وترعروا هناك على الرغم من الظروف غير المحتملة والفراغ الشاسع والمياه الشحيحة. من شبه الجزيرة العربية ولّدوا لغة رائعة وأدب لا يضاهى وأسسوا ديانة عظيمة، كما أنشأوا إمبراطورية شاسعة.

      من بين جميع القبائل البدوية الصحراوية، لم يقبل أحد من أفرادها الذين عرفتهم كمرضى دعوة الحكومة للتحضر. إنهم يفضلون الأراضي الجافة القاحلة وهدوء الصحراء على الأماكن الصاخبة والمدينة المزعجة للنظر. فالبحر الأحمر هو حوض الاستحمام  خاصتهم والرمال هي غرفة نومهم الرئيسية. من بين أمور كثيرة، تعلمت منهم التحمل والفرح واللامبالاة والرضا والصبر والبساطة وبهجة الحياة.

     في أحد أيام شهر أغسطس الحار، ذهبت لتناول الغداء بعد يوم عمل طويل. وعندما جلست، أتت ممرضة لتخبرني أن الشيخ حسين، وهو من قبيلة داخلية، قد امتطى ظهر الجمل عدة أيام ليصل إلى هنا ويلقاني. طلبت منها إحضاره إليّ ودعوته ليشاركني الغداء، إلا أنه رفض بوضع يده على صدره وشكرني بلطف. بعد ذلك، جلس إلى الطاولة وأخبرني عن مشاكله الصحية، فوافقت على فحصه بعد الغداء مباشرةً. بعد إزالة الطعام، جاء الطباخ بابتسامة ماكرة حاملاً وعاء من المشمش البارد الرطب ووضعه أمامي. مستمتعاً بنظرتي المتفاجئة، قال: "لقد أحضرهم السيد بيطار معه من لبنان ليلة أمس."

   

     تفحّص الشيخ حسين الثمار بفضول ممتع. فبالنسبة إلى رجل بدوي، لا بدّ أن حبوب المشمش اللبناني الحمراء والصفراء والنضرة والباردة شكلت مشهداً معذّباً إذ لم يستطع التوقف عن النظر إليها. وحتى في أسواق جدة الفخمة، كان المشمش في غاية الندرة إذ يتم استيراد المشمش الرديء ذي الصلاحية المحدودة. ملاحظاً فضوله الجشع، دعوته لتذوقها.

      

      سألني بصوت جاف: "ما هي هذه الفاكهة؟"

     فأجابته: "هذه الفاكهة قادمة من لبنان، لقد وصلت إلى هنا ليلة أمس". ثم تشجعت ودفعت الوعاء نحوه.

       

     تردد أولاً، ثم تناول بإصبعيه الرمليين الطويلين حبة واحدةً ووضعها في فمه بحذر.

     وما إن بدأ بمضغها، أنبهته قائلاً: "هناك بذرة بداخلها."

      ارتسمت ابتسامة في عينيه وهو يبصق البذرة في يده، ثم أخذ يتناول واحدة تلو الأخرى حتى شعر بالدوران. ارتعشت عظامي بينما كنت أشاهد فمه وهو يتذوق المشمش غارقاً في تفكيره العميق. في الواقع، لم يتوقف عن تناول باقي الحبات بسبب الشبع بل ذوقاً منه إذ كان قد تناول في ذلك الوقت حوالي نصف دزينة.

      لم أتفوه بكلمة واحدة كل ذلك الوقت بل كنت أراقب بابتسامة مضيافة ابن الصحراء وهو يتمالك نفسه ويضع بذور المشمش في جيب جلبابه ويمسح فمه الملتحي بيده الجافة ويتنهد بعمق، ثم يصرّح عن اكتشافه المطبخي مستشهداً بالقرآن الكريم.

     ومشيراً إلى حبات المشمش باصبعه الطويل المرتعش، أضاف:" حضرة الطبيب، يقولون أن الحمام نعيم الدنيا. خاف الله، هل هذا هو الحمام؟"

*

     في لبنان، كما الحال في بقية دول المشرق العربي، كان الآباء يعملون في الخارج في البلدان الغنية بالنفط، ولم يروا عائلاتهم إلا مرةً واحدة أو مرتين في السنة. أما أنا، فنادراً ما كنت أقضي وقتاً خاصاً مع والدي. تعلمت أن أشاركه أعداداً لا تحصى من الزوار، وعلى الرغم من هذا الغزو الثقافي، شعرت بارتياح كبير إزاء رواياته. كشخص بالغ، عندما أفكر في والدي، أصغي إلى قصصه، وهذه القصص هي التي تبقي ذكرياتي معه متوقدة.    

       وكما قال نسيم طالب في كتابه " البجعة السوداء" (The Black Swan): "إن الأفكار تأتي وتذهب، لكن القصص تبقى حية."

              

إن قصص الأعوام الماضية

التي وصلت إلينا ونحن صغاراً وكلنا آذاناً صاغية

احتجزتنا كأسرى في مجالاتها الفكرية

لكن، ما إن تزول هذه السنوات العريقة

ستبقيها القصص حية

لتردَّد على مسامع آذاننا الصغيرة

من سلسلة قصص: Both Banks of Life –متوفرة لدى: Amazon.com

حكايات عربية(سمعتها في صغري)، دار الجديد، المجلد 19، رقم 68 (2015)، ص 36-37.

 

 

اترك تعليقا