آخر الأخبار

حنّا سعادة - الانتخابات البلدية

الانتخابات البلدية

 أميون، الكورة

"والدتك هنا، جاءت لتصطحبك إلى البيت." قالها مدير المدرسة السيد دونالد دبلين بعد أن دعاني لأخرج من صف الكيمياء.

فأجبته باستغراب بينما كنت أقف بجانبه في الرواق: "ولكن أمي في السجن يا أستاذ."

فعاتبني قائلًا: "اهدأ يا بني، لا يجب أن تراك على هذا الحال."

فأجبته مرتجفًا والدموع تنغل في عيني: "ولكن يا أستاذ، هل أنت متأكد من أنه قد أطلق سراحها؟"

"إنها تنتظرك في مكتبي وبرفقتها أخويك الصغيرين."

"هل دعوتهما ليخرجا من الصف أيضًا؟"

"ما كنت لترغب بأن تعود بمفردها إلى البيت، أليس كذلك؟ هيا، ستبدأ عطلة عيد الفصح لديك وأخويك قبل يومين من عطلتنا."

حالما دخلنا باب الغرفة حاولت أمي الوقوف جاهدةً لكن سرعان ما انزلقت وسقطت على كرسيها فاتحةً ذراعيها. وقد كان وجهها شاحبًا ومتعبًا وعيناها تلمعان بفرح لرؤيتنا بصحة جيدة بعد أن فرقنا السجن مدة أربعة أشهر. كنت في سن الخامسة عشرة آنذاك، وكانت أمي تبلغ الخامسة والأربعين من عمرها. وذاك العام، عام 1961، هو العام المصيري الذي حاول فيه الحزب الذي ينتمي إليه والدي أن يحدث انقلابًا على الحكومة اللبنانية، ولكن محاولته هذه باءت بالفشل. وبعد محاولتهم هذه سيقت أمي إلى السجن، واعتقل أبي وزملاؤه وانتشرت حولهم شائعات بالإعدام. أما أنا وأخواي الصغيران فنقلنا في شاحنة عسكرية إلى مدرسة طرابلس للفتية حيث طلب منا النزول والامتناع عن المغادرة. لم تصلنا أي أخبار عن حال أمي أو أبي طوال الأربعة أشهر القاسية هذه، بل كانت الشائعات المنتشرة عنهم مقيتة ومؤلمة حتى بات الانعزال عن الآخرين ملجأنا الوحيد.

وضبنا أنا وأخواي ملابسنا في كيس غسيل كبير وغادرنا المهجع دون توديع زملائنا الذين كانوا لا يزالون في الصف حتى خرجنا مع أمي وكانت سيارة الأجرة تنتظرنا أمام البوابة، وهي السيارة نفسها التي أقلت أمي من أمام باب المستشفى الحكومي الذي كانت محجوزة فيه إلى باب المدرسة التي كنا نحن محتجزين فيها. خرجنا بهدوء تام ممسكين أمي بذراعيها، بينما كنا نود الخروج من تلك البوابة الحديدية وأصواتنا تعلو بالصراخ حد السماء.

كان سائق الأجرة رجلًا من رجال قريتنا أميون، فراح يسرد لنا تفاصيل ما حل بأصدقائنا وأقاربنا في خلال الأشهر الأربعة المنصرمة، ولم ينس الحديث عن أهم التطورات السياسية التي حصلت في غيابنا. وبحديثه هذا رسم في أذهاننا مشهدًا عنيفًا إذ اقتحمت كلماته آذاننا المقفلة. وصلنا إلى المنزل في خلال 20 دقيقة وكان ذلك رحمة لنا من الله.

عندما وصلنا إلى المنزل، وجدنا الباب مكسورًا وتبين لنا أن أحد الجيران اللطفاء قد قام بإصلاحه وإغلاقه بحبل. فككنا الحبل ودخلنا البيت ثم وضعنا كرسيًا وراء الباب لنغلقه. بدا المنزل وكأنه ساحة معركة، فأثاث الغرف محطم والزجاج متناثر على الأرض وكل ما في الأدراج والخزائن ملقى بفوضوية على الأرض. وقد بتنا نخطو فوق الأغراض المتناثرة بحثًا عن مكان نجلس فيه إلى أن وجدنا طريقنا إلى غرفة المكتبة فجمعنا الكتب المبعثرة ووضعناها في زاوية واحدة ثم استلقينا على الأريكة البيضاوية الشكل والتعب يقطر من وجوهنا وأجسادنا.

"قيل لي إنهم فتشوا المنزل بالكامل." هذا ما تمتمته أمي بينما بدت وكأنها تكلم نفسها. وهنا عرضت عليها المساعدة، فهزت رأسها قائلةً:" لقد تم تجميد حسابنا المصرفي، نحتاج إلى المال كي نبدأ حياتنا من جديد."

"في حوزتي بعض المال يا أمي، فقد ادخرت من مصروفي طوال العام الماضي."

"هل هذا المال معك الآن؟"

"لا. إنه مخبأ في غرفتي."

"لم يتركوا شيئًا يا بني، فقد دخلوا المنزل وفتشوا كل ما فيه."

"ولكنني خبأت المال في خزانتي."

"حسنًا ولكنني متأكدة من أنهم أخذوا كل شيء، فكل ما في خزانتك مرمي على الأرض."

"ولكن الرفوف لا تزال في مكانها."

"الرفوف؟ ماذا تقصد بإجابتك السخيفة هذه؟"

"كنت قد فتحت غلاف الرف الثاني وخبأت المال بين طبقتي الرف."

"الرفوف مصنوعة من الخشب الصلب. عن أي طبقات تتحدث؟"

"إنها مزيفة يا أمي، فهي تمامًا كأبواب بيتنا، فارغة من الداخل، لذلك استخدمت تلك المساحة الفارغة كمخبأ للأغراض."

علت وجه أمي الشاحب ابتسامة متواضعة واتسعت عيناها من الدهشة بمجرد أن أدركت أن ابنها البكر يملك أسرارًا صغيرةً، ثم اتكأت على ركبتيها ونهضت من مكانها منتصبة القامة رافضة مساعدتي. بعد ذلك، أومأت إلينا نحن أولادها الثلاثة الواقفين بجوارها بانتباه ثم قالت، "فلنلق نظرة."

وبكل ثقة، خطوت بين الأكوام المرمية على الأرض متجهًا إلى غرفتي بينما لحق بي أمي وأخوتي. وجدت أبواب الخزانة مشرعة ورفوفها تهوي، ولكنها كانت لا تزال في مكانها. عندها، تقدمت وفتحت طرف اللوح الخشبي برؤوس أصابعي فانقشع عنه الجانب الآخر وسحبت اللوح. ذهلت أمي واندهش أخوتي وهم يراقبونني وأنا أفصل طبقات الرف عن بعضها وأكشف عن مخبئي السري. وبعد أن تناولت رزمة المال، قدمتها لأمي بكل فخر قائلًا:" ثلاثمئة وثمان وستون ليرة."

حملت أمي الرزمة وأخذت تعد النقود البالغة حوالي مئة وخمسة وعشرين دولاراً ببطء، ثم قالت بكل ذهول وتعجب "من أين جئت بكل هذا المال؟ لم يكن مصروفك يتعدى الثلاث ليرات أسبوعيًا. إن جمعته كله لن يساوي هذا المبلغ."

فأجبتها قائلًا: " كلما ذهبت لأشتري لأبي السجائر كان يطلب مني الاحتفاظ بالباقي."

فردت: "أجل وكان مدمنًا على التدخين." ثم نظرت إلى داخل الرف وسألت: "وما دفتر الملاحظات هذا؟"

أخرجت الدفتر بحذر وأعطيتها إياه معترفاً: "إنه دفتر أسراري."

بدأت أمي تتصفح أوراق الدفتر ونظراتها مليئة بالشكوك حول ابنها المراهق ثم عبست في وجهي، وبينما كانت عيون أخوتي محدقة بنا، قالت متعجبة "إنها غير مفهومة."

"نعم، فقد كتبتها بلغتي الخاصة ولا يمكن لأي أحد أن يقرأها." أجبتها بثقة وأنا أستمتع بنظرات أخوتي المليئة بالاستغراب وعيون أمي المندهشة.

فردت أمي بذعر: "هل حقًا ابتكرت لغة سرية؟"

"لا يا أمي، ابتكرت أحرفًا سرية فحسب."

هنا تنفست أمي الصعداء ثم أعطتني الدفتر وقالت:" أنت تكبر بسرعة يا بني، وهذا أمر جيد. عليك إذاً أن تأخذ دور أبيك الآن طالما أنه غائب."

حيرتني كلمة أمي، فماذا تقصد بطالما أنه غائب؟ لماذا لم تقل "حتى يعود والدك"؟ هل كانت تظن أن أبي لن يعود أبدًا؟ إلا أنني اكتفيت بالتساؤل في نفسي خائفًا من سؤالها.

في ذينك اليوم، قصدت الدكان لأبتاع بعض الطعام للعائلة من مالي المدخر. وبينما كنت في طريقي إلى البيت حاملاً الأكياس تحت ذراعي، مشيت باعتزاز وشعرت وكـأنني أبي القوي الواثق من نفسه الجبار الذي لا يقهر. شعرت بأعين الجيران تراقبني من وراء الستائر ومن خلف النوافذ، حتى أن بعضهم خرج إلى الشرفات ليلقي نظرة عن كثب، إلا أن أحدًا منهم لم يلق التحية علي أو يلوح لي. كان الجميع خائفًا يترقب، ورجال الشرطة المتنكرين كانوا في كل مكان، ومجرد الحديث إلينا كان بمثابة خيانة.

وعند حلول عيد الفصح المجيد، وبفضل خالاتي وعماتي وبعض من أقاربي الذين كانوا قد أُخرجوا من السجن حينها، تمكنا من إعادة ترتيب المنزل وحصلنا على بعض المال نتيجة شراكة كان أبي قد أقامها مع أحدهم في دولة الكويت. أما أمي، وهي طبيبة نسائية، فأعادت فتح عيادتها مجددًا رغم أن قلة قليلة من مرضاها عادوا لزيارتها، فقد انتشرت في حينها شائعات بصدور حكم الإعدام بحق العديد من قادة الحزب، ولم يرغب أحد بمقابلة امرأة زوجها محكوم عليه بالإعدام. علاوةً على ذلك، فقد لازم باب عيادتها كما باب منزلنا مجندون سريون كانوا يدونون أسماء الزوار واحدًا واحدًا. نتيجةً لذلك، لم تتمكن أمي من تأمين قوت يومنا إلا بعد أشهر من إعادة ممارستها المهنة، وطبعًا يعود الفضل في ذلك إلى أن طرابلس مدينة مسلمة محافظة تفضل الطبيبات الإناث وخاصة المسيحيات منهن، إذ إن القرآن يصف بالتفصيل ولادة المسيح المباركة من رحم مريم.

ومع قدوم فصل الصيف، انتقلنا إلى منزلنا في أميون هربًا من الحرارة والرطوبة في طرابلس. في ذلك العام، لم نتمكن أنا وأخوتي من الذهاب إلى الشاطئ إذ كان من غير الآمن لنا أن نتواجد بين عامة الناس. وفي تلك الفترة، كانت التوترات مشتعلة تحت الطاولة بين حزبين سياسيين قويين: كان الأول يدعم الحكومة وعقوبة الإعدام بحق الثائرين والثاني يناهض النظام السياسي القائم ويطالب بمعاملة المسجونين على أنهم سجناء سياسيون لا مجرمون.

كان الناس يدافعون عن مواقفهم بينما طرقت آذاننا أخبار نزاع مسلح قد يرافق الانتخابات البلدية القادمة، فكان فصل الصيف هذا فصل بؤس شهد تحريضًا سياسيًا كبيرًا وأنار للعنف طريقًا واسعة.

ذهبت وصديقي المفضل نظام نتمشى بين بساتين الزيتون وكروم العنب وبذا نتمكن من الخوض في أحاديث سياسية بعيدًا عن آذان الكبار. وكان العنب حينها قد شارف على النضوج واستحقاق تخميره كان يبعد أسابيع قليلة فحسب. ولكن في تلك السنة لم يترك الخوف أحدًا فسيطر على أذهان الجميع ذلك بأن إجراء الانتخابات البلدية كان في موسم القطاف والتخمير. وأما بلدتنا المسالمة أميون، فقد قدر لها أن تصبح ساحة نزاع دموي إذ إن الطرف السياسي الأضعف المؤيد للحكومة قد قرر استعراض عضلاته السياسية لتجيير الانتخابات لصالحه، لذلك تم تسليح جميع الأشخاص القادرين على حمل السلاح وفاحت رائحة الدم الذي لم يسفك بعد في الأجواء.

وفي يوم من الأيام، وبينما كنت أتظلل من أشعة الشمس تحت شجرة بلوط ضخمة وأكسر اللوز بالحجارة، رمى نظام حصاة كسرت زرقة السماء وقال، "في حال أجريت الانتخابات في موعدها، ستضيع حياة الكثيرين تمامًا كهذه الحصاة."

فأجبته محاولًا طمأنته: "ولكنهم سيفعلون شيئًا حيال الأمر بالتأكيد."

لكنه رد ساخرًا: "ومن سيفعل شيئًا حيال ذلك؟"

هنا حاولت أن أبدو واثقًا من نفسي، فقلت: "الكبار، بالطبع."

نظر في عيني وقال: "يا حنا، الكبار يخشون التحرك. نحن الأمل بالمستقبل."

"ماذا تقول؟ ولدان بعمر الخامسة عشرة هما أمل أميون الوحيد؟ لا بد أنك أكلت الكثير من اللوز فأثرت عليك."

هنا أجاب بغضب: "لم أقصد أننا أنا وأنت الأمل الوحيد بمستقبل أميون. ما قصدته فعلًا هو أنك أنت، يا حضرة حنا عبد الله سعادة، أمل أميون الوحيد بالمستقبل."

وبينما كنت أجمع كومة اللوز غير المكسور الموجودة بيننا أجبته قائلًا: "لا مزيد من اللوز لك."

نهض نظام وسار بعيدًا دون التفوه بكلمة، تاركًا في نفسي تساؤلًا، هل أصابه الجنون فجأة؟ نحن صديقان منذ نعومة أظفارنا وهو الوحيد الذي كان يتجرأ على القدوم إلى طرابلس وحيدًا ليزورنا عندما كنا محتجزين في المدرسة الإنجيلية الأميركية في طرابلس، المشهورة باسم مدرسة طرابلس للفتية. كما أنه لطالما كان شجاعًا وذكيًا وعاقلًا لكن ما قاله ذاك اليوم لا معنى له.

وبما أنني كنت متأكدًا من أنه سيعود، بقيت أنتظره هناك في الظل وكلي قلق وارتباك وخوف.

مرت ساعة، ولم يعد. فبدأت أمشي عائدًا إلى البيت وفي رأسي وابل من الأسئلة المتضاربة. ومع اقترابي من الشارع الرئيسي، رأيته ينتظرني بمحاذاة الجدول. وقد بدت على وجهه علامات الهدوء ودنا من الماء الدافق وبيده سكين الجيب يجرح به عودًا خشبيًا. فما كان مني إلا أن جلست على صخرة قريبة منتظرًا إياه أن ينطق بكلمة ولكنه لم يفعل، فبدأت أنا بالحديث، ولو باستياء: "لماذا مشيت من دون أن تتلفظ بكلمة؟"

"لأنك تتهرب من مسؤولية تخليص أميون من سفك الدماء."

"تعلم يا نظام، هذا جدال بيزنطي لا جدوى منه."

"كلا، بل أنت من أعميت عينك عن رؤية الحقيقة."

"عن أي حقيقة تتكلم؟"

"حقيقة أنك أنت الوحيد القادر على تخليصنا من هذه المجزرة."

قال نظام كلمته وعلت وجهه علامات القلق، ولكنه كان جديًا في حديثه لدرجة أنه جعلني أتنبه لما حولي. في تلك اللحظات كنت لا أزال غير مدرك لما يدور في رأسه، ولكنني كنت أرغب بسماع ما يود قوله حقًا. ولكي أكسر حائط الجليد الذي كان قد تجمد بيننا، تلفظت بكلماتي بصوت منخفض ملؤه الفضول وقلت، "حسنًا، أخبرني عما يجول في ذهنك."

نظر إلي نظرة طويلة صامتة وبدا مطمئنًا لصدق حديثي الشفاف ثم فتح لي قلبه واستهل الحديث:

"اسمع يا حنا، إن والدك الآن ليس محكوماً بالإعدام فحسب، بل سيرته باتت على كل لسان وصورته تعرض كل يوم في الجرائد. وهذا بطبيعة الحال يجعلك شخصًا معروفًا، فكل من يسمع اسمك، حنا عبد الله سعادة، سيدرك أنك ابن السجين السياسي الدكتور عبد الله سعادة، وهذه الشهرة من شأنها أن تدخلك إلى وزارة الداخلية."

في لبنان، على غرار الدول العربية الأخرى، يكون الاسم الأوسط لكل الأخوة، ذكورًا كانوا أم إناثًا، الاسم الأول للأب. هذا ما فهمته من حديثه حتى تلك اللحظة، ولكنني لم أعرف ما يريده من هذا المخطط. خفت أن أسأله فلزمت الصمت وانتظرته ليكمل الحديث.

"كل ما علينا فعله هو الذهاب إلى بيروت وإيجاد مركز وزارة الداخلية، ثم بعدها نطلب مقابلة الوزير ونطلب منه إلغاء الانتخابات."

"هل تقصد الدخول إلى مكتب الوزير الأكثر انشغالًا في الدولة بيار الجميل بهذه البساطة؟ هل جننت؟ ماذا عن كل الحراس والمجندين السريين والأمناء الذين علينا أن نتخطاهم لكي نصل إليه؟ كيف سنتمكن من تخطيهم جميعًا؟

"هنا ما قصدته بأن اسمك سيكون جواز سفرك. فعند كل نقطة تبرز لهم بطاقة هويتك وتقول إنك تطلب مقابلة الوزير لأمر طارئ جدًا. كما أن أحدًا لن يشك بأن مراهقًا ذو وجه بريء مثلك سيقوم بعمل مشاغب في الوزارة."

"وماذا عنك أنت؟ لماذا تعتقد أنهم سيدعونك تدخل برفقتي؟"

"لأنني أنا أرافقك وأنا وأنت معًا نمثل شباب أميون."

"ولكننا لم نخبر أيًا من شباب أميون بذلك."

فرد واثقًا: "لا داعي لذلك. بالله عليك يا حنا، حان الوقت لتكبر قليلًا. هذا ما سنخبرهم به إن سألوا ليصدقونا ونمرّ فحسب.

أجبته وشعور المسؤولية بات يثقل على كتفي: "إذًا أنت تقول إن الأمر كله متعلق بي، صحيح؟"

فأجاب: "الأمر كله يتعلق بك يا حنا عبد الله سعادة، لن نخسر شيئًا إن حاولنا، ولكن إن لم نحاول سيموت الكثيرون بلا رحمة وقد تنقسم البلدة إلى فصائل انتقامية تبقى حية لأجيال وأجيال."

بدأت الدموع تنهمر من عيني وتنسكب على الأرض بين قدمي، ولكنني سرعان ما استسلمت قائلًا: "حسنًا، لا بأس، فلنجرب. إن نجحنا فسنصبح أبطالًا، وإن فشلنا فسنبقى الولدين الأحمقين على كل حال."

قضينا فترة بعد الظهر في مناقشة بعض التفاصيل المهمة، فأجرة السيارة من أميون إلى ساحة الشهداء في بيروت هي ليرتين للراكب الواحد، وأجرة الباص من ساحة الشهداء إلى مبنى وزارة الداخلية هي نصف ليرة للراكب، وإن أضفنا نصف ليرة لنشتري بها شطيرة ومشروبًا غازيًا لكل منا فسيكون المبلغ كله عشر ليرات. ونحن معًا، أي أنا ونظام، لم يكن بحوزتنا إلا ثلاث ليرات، وهذه هي المشكلة الكبرى. ثم إن أهلنا لن يقبلوا أن نذهب إلى بيروت بمفردنا، فكان من العبث أن نطلب منهم المال إذ إنهم سيسألوننا عن سبب حاجتنا لهذا المبلغ.

غلب العبوس وجهينا بينما كنا في الطريق عائدين إلى أميون، فخطتنا باتت مهددة بسبب الحالة المادية المرّة. ولإن توفر لدينا المال، سنتمكن من الانطلاق إلى بيروت في الصباح والعودة قبل غروب الشمس، وهكذا سنخبر الجميع بأننا كنا في نزهة سويًا، وأنها ليست كذبة، وإن وصلنا إلى البيت قبل العشاء لن يلحظ أحد غيابنا.

كل ما كان ينقصنا هو المبلغ الضخم، الليرات السبعة، ولكننا لم نقدر على طلبها من أحد إذ إن رحلتنا هذه في غاية السرية، وإن كُشف سرنا، فسيوقع بنا أطراف الانتخابات أشد العقاب، ذلك لأنهم يتقاتلون على الانتخابات ويريدون إجراءها مهما كلف الأمر.

واليأس مفتاح الأمل، إذ من حناياه المظلمة البائسة تنبت أفكار نيّرة. وعند العشاء، وبينما كنت جالساً وأمي وأخوتي على المائدة، لمعت في رأسي فكرة! أمي لم تكافئني على مساعدتي لها بالمال حال وصولنا إلى البيت بعد الغياب الطويل، فانتظرت حتى ينهي أخوتي الطعام ويغادرا ثم سألتها قائلًا: "أمي، هل ستردين لي بعضاً من المال الذي أعطيتك إياه؟"

فأجابت باستغراب: "عن أي مال تتحدث يا بني؟"

فأجبتها بصوت خافت إذ كنت أدرك أن الأوضاع كانت سيئة حينها: "المال الذي خبأته في رف خزانتي."

"ولكنك لست بحاجة إلى كل ذلك المال الآن، صحيح؟"

"لا، بالطبع لا يا أمي. إنني أحتاج سبع ليرات فقط، فسنذهب أنا وأصدقائي في نزهة غدًا وعلينا أن نشتري بعض الحاجيات."

"لا بأس، ما رأيك بأن تأخذ عشر ليرات كل أسبوع حتى يكتمل المبلغ؟"

بعد العشاء، ركضت إلى بيت نظام مسرعًا والمال في جيبي لأخبره بأن مشكلتنا قد انحلت. لم يغمض لي جفن تلك الليلة، حتى أن عقلي لم يتوقف عن التفكير للحظة، فكيفما درت، يمينًا وشمالًا بعيني المفتوحتين، كان القلق ينتابني والخوف يأخذ مني مأخذًا. ومع طلوع الفجر، انتظرت حتى غادرت أمي إلى طرابلس، وانطلقت أنا ونظام إلى بيروت متجاهلين ما حولنا من فوضى وكلنا آمال عارمة.

وصلنا إلى ساحة الشهداء في بيروت قبل حلول العاشرة والنصف بقليل، ثم مررنا بين حشود الناس إلى موقف الباص وأخذنا المقعدين المتبقيين، فترجلنا أمام مبنى وزارة الداخلية عند الحادية عشرة.

كان مبنى الوزارة صرحًا حجريًا بني في القرن الثامن عشر إبان الحكم العثماني، ولكنه وعلى الرغم من تصدعه، كان لا يزال واقفًا كأسد عجوز بشيبه المهيب وزئيره الذي يصدح عند البوابة. هذه البوابة الأمامية التي ترتفع عن الشارع بأربعين درجة، يقف أمامها حارسان مسلحان يتحققان من بطاقة هوية كل من يطأ داخلها، وعند مدخل الردهة يقف حارسان آخران يفتشان الزوار قبل السماح لهم بالدخول. وبعد تخطي البوابة والردهة يوجد خلية من المكاتب التي تضج بالناس، يدخلون ويخرجون، يحملون ملفات وحزم أوراق ضخمة وحقائب مكدسة. 

أما الخدم فكانوا يروحون ويجيئون من هنا وهناك يحملون القهوة التركية وعصائر الليمون والجزر والطماطم الطازجة والفحم المشتعل للنرجيلة. وعلى الرغم من ارتفاع الأسقف، كانت أصوات أولئك الناس المنشغلين أشد الانشغال تضج بين جدران المكان.

بعد أن تخطينا الحارسين، وقفنا مندهشين وضعنا وسط ذاك الكم الهائل من الناس الذين، على عكسنا، كانوا يعرفون أين يدخلون ويخرجون تمامًا. كان علينا أن نسأل أحدًا، أي أحد باستطاعته أن يدلنا على مكتب وزير الداخلية السيد بيار الجميل، ولكن أحدًا لم يكن يلحظ وجهينا المتحيرين وأيدينا المومئة بالأسئلة. وهكذا سرنا بضياع بين الأروقة، لا علامات ولا أسماء تساعدنا على معرفة الطريق، صعدنا العديد من الأدراج الرخامية حتى وصلنا إلى الطابق الثالث حيث لم يكن ثمة وابل من البشر كما في الدور الأول حتى أننا تمكنا من الحديث معًا بلطف دون الحاجة إلى الصراخ.

هنا قال نظام بصوت خافت كي لا يلفت الانتباه: "ذاك باب مفتوح، يمكننا أن نجد أحدًا نسأله عن المكتب."

"حسنًا، هل علي أن أدخل وأسأل عن مكتب الوزير فحسب؟"

"أظن ذلك، ثمة سكرتيرة لطيفة تجلس خلف المكتب، أنا متأكد من أنها ستسر بمساعدتك."

فأجبته مترددًا: "هل أنت واثق من ذلك؟"

فأصر قائلًا: "ليس أمامنا أي طريقة أخرى، هيا اذهب ماذا تنتظر؟"

كنت مترددًا، ولكنني تمالكت نفسي ودخلت. نظرت إلي وقالت: "هل يمكنني مساعدتك؟"

وبينما كنت أنظر إلى وجهها اللطيف الفاتن، قلت: "أجل، من فضلك."

فابتسمت وأجابت: "حسنًا، كيف لي أن أساعدك؟"

"إنني، إننا نبحث عن مكتب السيد الوزير."

فردّت بدهشة: "مكتب السيد الوزير؟"

"أجل يا سيدتي، مكتب وزير الداخلية السيد بيار الجميل."

فأجابت وكأنها لا تصدق ما أقوله: "حسنًا فهمت، أنت هنا لتقابل معالي وزير الداخلية السيد بيار الجميل."

"أجل يا سيدتي، إنه أمر في غاية الخطورة."

" ألديك موعد مسبق؟"

"لا، ولكن الأمر مهم جدًا لذا فلا أعتقد أنه سيرفض مقابلتي."

"حسنًا، قل لي ما اسمك إذًا لكي أخبره وأرى إن كان سيقابلك."

"اسمي حنا عبد الله سعادة."

وبينما كانت تحدق بي بمزيد من الفضول، قالت: "حنا عبد الله سعادة."

فأومأت برأسي مؤكدًا اسمي.

"أنت لست ابن الدكتور عبد الله سعادة الذي حاول الإطاحة بحكومتنا، صحيح؟"

"بلى يا سيدتي، إنني ابنه البكر."

ثم أرادت أن تتأكد من ذلك فقالت: "هلا أريتني بطاقة هويتك من فضلك؟"

ناولتها البطاقة فراحت تدقق فيها وسألت وقد بدا الاستغراب على وجهها أكثر: "ومن هذا الذي يرافقك؟"

"إنه صديقي، نظام أبو حبيب."

فأنعمت النظر فيه وقالت: "ادعه للدخول."

فخرجت إليه ثم دخلنا معًا ووقفنا أمامها منتظرين قرارها، فنظرت إلى نظام وقالت: “أرني بطاقة هويتك لو سمحت."

لم ينطق نظام بكلمة، بل أخرج بطاقة هويته وناولها إياها فراحت تدقق فيها والاستغراب يعلو وجهها، ثم أخذت البطاقتين ودخلت إلى الغرفة المجاورة. عندها نظرت إلى نظام الذي اصفر وجهه خوفاً وبدا عليه القلق وتساءلت: "أتظن أنهم سيعتقلوننا؟

فهز رأسه قائلاً:" لست مرتاحًا، لم أخذت بطاقتينا وذهبت بهما؟"

"إن صادروا بطاقتينا فلن نتمكن من العودة إلى البيت، فلن يدعونا نمر عبر الحواجز من دون بطاقات."

"أشعر بالتعب وبالغثيان"، كانت آخر عبارة تفوه بها نظام قبل أن يغمى عليه عند قدماي. وبينما بدأت أشعر أنا أيضاً بالمرض ولكن ليس لدرجة أن أهوي على الأرض، جثوت بقربه محاولاً تهدئته فشعرت بيد تلامس كتفي. نظرت للأعلى وإذ به معالي وزير الداخلية السيد بيار الجميل يقف إلى جانبنا، ثم سألني: "ماذا حصل لصديقك؟"

وقفت بسرعة وأجبته: "لقد هوى على الأرض فجأة، معاليك."

وضع يده حول كتفي وقادني إلى مكتبه قائلًا: "لم لا تأتي معي، ستهتم به الآنسة سلمى."

كانت غرفة مكتبه متواضعة وفيها طاولة مكتب كبيرة ورفوف. وطبعًا لعلم لبنان المجيد حيز مهم عند النافذة المطلة على الحشود في الأسفل.

"تفضل بالجلوس،" قال الوزير وهو يومئ بيده نحو كرسي أمام مكتبه ثم أكمل: "إن كنت أتيت لتطلب إذنًا برؤية والدك فإنني آسف لإخبارك بأنه من غير المسموح ذلك إذ إنه يقبع في السجن الانفرادي."

فأجبته بسرعة: "لا يا سيدي. قصدتكم لأطلب منكم إلغاء الانتخابات البلدية في أميون لأننا نرى أن مجزرة ما ستحصل إن أجريت هذه الانتخابات."

"مجزرة؟ إنها كلمة كبيرة يا بني، كما أن مصادرنا لم تعلمنا بذلك."

"ولكن يا سيدي، إنني أعيش هناك وسمعت الكبار يقولون إن بحوزة الجميع أسلحة جاهزة وإنهم يكرهون بعضهم بشدة، الأوضاع سيئة للغاية يا سيدي."

فنظر إلي نظرة فضول وسأل: "وإلى أي جهة تنتمي أنت؟"

فأجبته بصوت ضعيف: "أنا يا سيدي لا أنتمي إلا لهذه الحياة، وأحد منا لا يستحق أن يموت لسبب تافه كهذا."

"من الذي أرسلك إلي يا بني؟"

"لا أحد يعلم أنني هنا إلا صديقي نظام أبو حبيب الذي جاء ممثلًا عن شباب أميون. إنه الفتى الذي أغشي عليه في الغرفة المجاورة."

"وأمك؟ هل تعلم أنك هنا؟"

"أبدًا يا سيدي، فقد تقتلني إن علمت بأنني جئت إلى هذا المكان."

"حسنًا يا بني. فلتعد إلى منزلك الآن، واترك الأمر سرًا بيننا. سأحاور مصادرنا الإخبارية وأرى ما يمكننا فعله حيال هذا الأمر."

عند خروجي من المكتب، وجدت السكرتيرة جالسة وراء مكتبها ولكنني لم أجد نظام. رحت أبحث عنه بناظري فلم أجده، ولكنها لحظتني فأومأت نحو الباب وقالت: "إنه بخير ولكنه كان يحتاج لبعض الهواء النقي، قال إنه سينتظرك في الخارج."

خرجت إليه فوجدته قابعًا على الدرج الطويل ماسكاً رأسه بين يديه. جلست بجانبه محاولًا إخفاء شعوري بالتعب وسألته: "ماذا حصل لك؟"

فأجابني بصوت ضعيف: "أظنني فقدت وعيي."

"تظن أنك فقدت وعيك؟ هل تظن أنك نظام أبو حبيب أيضًا؟"

"لا تسخر مني لو سمحت."

"حسنًا، لماذا فقدت وعيك إذًا؟"

"راودتني أفكار كثيرة سيئة. فعندما رأيتها تبتعد ومعها بطاقتينا ظننت أنهم سيزجون بنا في السجن ويحققوا معنا حتى نعترف أن أحدًا ما قد أرسلنا إلى هنا. وبما أننا جئنا إلى هنا بمفردنا ولم يرسلنا أحد فإنه من الصعب أن يصدقوا ذلك وقد يعذبوننا حتى نعترف بأسماء بعض الكبار العشوائية. وقد كنت أفكر بالأسماء التي سأذكرها كي لا يعذبونني لذلك شعرت بالدوار وهويت على الأرض."

عدنا إلى أميون قبل مغيب الشمس وعاد كل منا إلى منزله وكأن شيئًا لم يكن. أخبرنا الجميع بأننا مشينا حتى نبع دلة، ثم تناولنا غداءنا في كافيتريا بجانب الشلال وعدنا إلى البيت. كانت أحذيتنا قد تلوثت بالغبار لكثرة ما مشينا في وسط مدينة بيروت وكنا مرهقين جدًا وهذا ما دعم كذبتنا حتى أن أمهاتنا المليئات بالشك قد صدقتا الموقف.

وبعد مرور ثلاثة أيام، أي قبل أسبوع واحد من موعد الانتخابات، كتبت صحف نهار الأحد الصادرة صباحًا:

"إعلان إلغاء الانتخابات البلدية في أميون بقرار صادر عن معالي وزير الداخلية السيد بيار الجميل حتى إشعار آخر، ولا تفاصيل أخرى."

في اليوم التالي، رافقت أمي إلى طرابلس، وبينما كانت تعاين مرضاها في العيادة، فتحت رفي السري وأخرجت دفتر ملاحظاتي، وبلغتي الخاصة كتبت:

"زرت ونظام معالي وزير الداخلية السيد بيار الجميل في مكتبه القائم في مبنى وزارة الداخلية. أخبرناه أنه وبسبب التوترات الكبيرة الحاصلة ستتسبب الانتخابات البلدية بمجزرة إن أجريت. اتصل بمصادره الإخبارية واستعلم عن الأمر، وبعد دراسة الأوضاع، قام بإلغاء الانتخابات."

لم يخطر في بال أحد أنني ونظام كنا السبب وراء ذلك، وقد طلب معالي الوزير أن يبقى هذا الأمر سرًا بيننا. أما سكان القرية فاستهجنوا ذلك وتحيروا منه، فالطرف المناهض للحكومة يقول إن الحكومة خائفة من الخسارة ولذلك ألغت الانتخابات، أما الطرف المناصر للحكومة فقال إن الحكومة لم ترغب بأن تتكبد أميون خسارة مدمرة أخرى، لذلك أصدرت هذا القرار.

ولن يعلم أحد حقيقة الأمر إلا نحن الثلاثة، نظام، ومعالي الوزير بيار الجميل، وأنا.

 

اترك تعليقا